لا أعتقد أن هنالك موضوعاً طبياً في السنوات العشر الأخيرة قد أثار جدلاً مثل لقاح إنفلونزا الخنازير. ولا أظن أنني سُئلت عن موضوع بهذه الكثرة والتواتر والإلحاح كما يحصل بشأن هذا اللقاح. لقد كتبت عن هذا الموضوع -المرض واللقاح- حوالي خمس مقالات نشرتها في صفحتي الطبية المنتظمة (في جريدة “الحدث”)، وتحدثت عنه في عدّة برامج إذاعية، وتحدثت مع المرضى وأهليهم عنه “آلاف المرّات”، بالمعنى الحقيقي لا المجازي لهذه الكلمة، وذلك خلال الأسابيع الماضية منذ بدأنا بإعطاء اللقاح في العيادات، ولا زلت أرى حاجة ماسّة لمعلومات أكثر وإيضاح أكبر وربما للمزيد من الطمأنة بشأن هذا اللقاح. فكل مقال نشرته كان يجلب أسئلة جديدة، وكل برنامج تحدّثت فيه كان يستدعي استفسارات محدثة. وبمبادرة طيّبة من إدارة صحيفة “صدى الوطن” نحاول اليوم أن نلقي المزيد من الضوء على هذا الموضوع نظراً لأهمّيته البالغة والحاجة الماسة لإيصال الرسالة أكثر وأكثر.
إنفلونزا الخنازير
منذ أن تم التعرّف على فيروس إنفلونزا الخنازير في نيسان الماضي أصيب به الملايين من المرضى، وأدخل إلى المشافي الآلاف منهم، وأيضاً توفيّ المئات. المشكلة في هذا المرض أن أعراضه تتشابه كثيراً مع الإنفلونزا الموسمية التي نعرفها. من ارتفاع حرارة وصداع وألم في البلعوم وربما إقياء وإسهال وألم بطني. وبالتالي فالطريقة الوحيدة لتشخيص المرض هي بزيارة الطبيب، فلا مجال للاجتهادات المنزلية في هذا الموضوع. فالطبيب يقوم بالفحص الطبي، وربما قام بإجراء فحص مخبري حين الحاجة من أجل تشخيص المرض، وفي حال التشخيص فيمكن أن نقوم بالمعالجة والغالبية العظمى من الحالات تشفى دون مضاعفات.
مبالغات حول المرض
الإنسان عدوّ ما يجهل. وعندما بدأ تشخيص هذا المرض في بداية العام الحالي في المكسيك ثم في جنوب الولايات المتحدة الأميركية انتشر رعب خاص بشأنه. وقد راحت وسائل الإعلام الباحثة عن “السبق الصحفي” تبالغ بالأمر. ولم يكن ممكناً للمشاهدين في أنحاء العالم أن يشاهدوا تلك الأخبار التي تري الناس يرتدون “الكمامات” في المكسيك ثم التعليقات عن المرض والوفيات الناجمة عنه، لم يكن ممكناً لهم إلاّ أن يصابوا بالرعب بشأنهم وبشأن عائلاتهم. وأصبح المرض هو الموضوع المفضّل للشريط الإخباري لجميع الفضائيات العربية والأجنبية مما جعل الأمر يكتسي طابعاً خاصاً أشبه بأفلام الرعب. ولم تنفع كثيراً الطمأنة اللاحقة التي بدأ يقدّمها بعض الأطبّاء والتي بدأت توضح أن هنالك علاجات نوعيّة للمرض وأن الأمراض والوفيات الناجمة عن الإنفلونزا الموسمية تتجاوز ما نتوقـّعه من إنفلونزا الخنازير. فقد غرقت التطمينات في بحر لجّيّ من المخاوف التي زرعت في قلوب الناس وكان الأمر بشكل عام من باب “قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذبا، فما احتيالكَ في قولٍ إذا قيلا؟”.
مبالغات حول اللقاح
كنت أظن أن المبالغات التي قيلت بشأن المرض أمراً مزعجاً بلغ المدى، حتى تعاملت مع المبالغات التي قيلت بشأن اللقاح، والتي تجاوزت الشكل العلمي فوصلت إلى المرحلة “الكاريكاتيريّة” فعلاً. بدأ الأمر بذكر أن اللقاح يسبب مرضاً يدعى غيلان باريه (وهي عبارة عن حالة شلل صاعد يبدأ في الأطراف السفلية ويصل إلى العضلات التنفسية)، ثم كان حديث عن أن اللقاح يسبب التوحّد الطفلي بسبب مادة “ثيمروسال” التي توجد في “بعض” اللقاحات. هذه التساؤلات طرحتها بداية بعض وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمقروءة من خلال أشخاص ليست لديهم الخبرة الطبية المطلوبة لطرح أسئلة طبية نوعية. ثم تطوّر الأمر بعد ذلك إلى المرحلة “الهزلية الإنترنتيّة” حيث بدأ الحديث عن أنه يسبب الجنون والسرطان والعجز الجنسي والعقم. ثم وصلت “الدراما” إلى قمّتها عندما بدأ البعض يذكر أن هنالك “مؤامرة ما” في “مكان ما” تهدف إلى تحويل نصف سكان الأرض إلى عاجزين مرضى يسيطر عليهم النصف الآخر ذو الصحة الكاملة والقوة الماحقة!!
ردود
لا بد أن نقول بادئ ذي بدء أنه لا يوجد في الدنيا لقاح أو دواء أو علاج أو وسيلة تشخيصية خالية مئة بالمئة من التأثيرات الجانبية أو المشاكل المحتملة. وهذا ينطبق على كل ما هو موجود في الطب من شراب “التايلنول” البسيط إلى جراحة القلب المعقـّدة. هذا أمر بدهي بطبيعة الحال. أما الردود النوعية المحددة على المبالغات سابقة الذكر فهي بسيطة. بالنسبة لمتلازمة غيلان باريه فالإشاعات المرتبطة بها اعتمدت بشكل رئيس على لقاح سابق لمرض مشابه وتم إنتاجه في عام 1976. وفي تلك المرحلة حصلت حالة غيلان باريه واحدة لكل مئة ألف لقاح تم إعطاؤه. وبعد مضي ثلث قرن على تلك الحقبة، فإن وسائل إنتاج اللقاحات قد تطوّرت كثيراً، ويمكن القول بارتياح إنه لم تحصل أية حالة من المتلازمة المذكورة بسبب إعطاء اللقاح الحالي علماً بأنه قد تم إعطاء حوالي خمسين مليون جرعة منه حتى الآن. وبالنسبة للتوحّد الطفلي فالأمر تم الكلام عنه بالنسبة للقاحات أخرى قبل لقاح إنفلونزا الخنازير، وقد أجرت الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال دراسات قامت بها لجنة مختصة خلصت إلى أن “الثيمروسال” لا علاقة له مطلقاً بالتوحّد الطفلي. أما الجنون والسرطان والعجز الجنسي فأعتقد أنها موجودة في عقول من أطلق تلك الإشاعات حيث أن الأدب الطبي كله يخلو من هذه الاعتبارات بشأن هذه الأمراض كنتيجة لهذا اللقاح. وبالتالي فإن المراجع الطبية الهامة لم تكلّف نفسها حتى عناء نفي هذه الأمور لأنها غير واردة، و”نفيُ الشيء فرعٌ عن تصوّره” كما يقولون. وبالنسبة للقول الشائع بأن اللقاح جديد ولم تتم تجربته كما يجب، فلا بد من أن نذكر أن لقاح إنفلونزا الخنازير مشابه كثيراً للقاحات الإنفلونزا الموسمية والتي تستخدم منذ سنوات طويلة، علماً بأن اللقاح يختلف في كل عام عن العام الذي سبقه نتيجة للتغيرات المعروفة في فيروس الإنفلونزا وبالتالي في لقاحها، فما هو الجديد إذاً؟
وأمّا بالنسبة لموضوع إصابة نصف سكان الكرة الأرضية بالعجز والضعف والكساح وإلخ، فيكفي أن نقول هنا ببساطة لكل حكماء الإنترنت: كيف يمكن أن يكون هذا ثم تقوم أضخم دول العالم بفرضه على جيوشها المنتشرة في كل أنحاء العالم؟ هل تريد السيطرة على العالم عبر جيشٍ كسيح؟!
أين نضع ثقتنا؟
إن قرار إعطاء لقاح ما أو إقرار دواءٍ ما هو أكبر من أن يقوم باتخاذه طبيب فرد أو مؤسسة واحدة صغرت أو كبرت. وهو ــ في الواقع والممارسة ــ منوط بمؤسسات قومية ودولية أوكل إليها الحل والربط. في الولايات المتحدة تلعب هذا الدور عدّة مؤسسات أهمها “مركز الوقاية والسيطرة على الأمراض” و أيضاً “وكالة الغذاء والدواء” وأيضاً المؤسسات المهنية مثل “الجمعية الطبية الأميركية” و”الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال”، وهذه المؤسسة الأخيرة وحدها تضم 75 ألف طبيب أطفال ليس لهم غرض شخصي وهدفهم المعروف والمعلن هو تقديم الأفضل للطفل في كل أنحاء أميركا. وعلى مستوى العالم هنالك “منظمة الصحة العالمية”. إن هذه المؤسسات جميعاً -من ضمن مؤسسات أخرى- توصي بشدة بإعطاء اللقاح، وتعتبره الوسيلة الوحيدة لمنع انتشار مرض إنفلونزا الخنازير في العالم. غسل اليدين والمحافظة على النظافة وغيرها من الوسائل العامة هي وسائل مساعدة. لكن الوسيلة الجادّة الوحيدة هي اللقاح. هذا ما تقوله الدراسات وهذا ما تقرّه المؤسسات.
وبعد النقاط التي ذكرناها والدراسات التي أشرنا إليها لم يعد السؤال فيما إذا كان لقاح إنفلونزا الخنازير مفيداً أو ضارّاً، ولكن السؤال ببساطة هو : “أين نضع ثقتنا؟”، هل نضعها في المؤسسات العلميّة الجادّة وذات السمعة التي تأسست على مدى السنوات والعقود؟ أم نضعها في يد إعلاميّ باحث عن الشهرة المشروعة أو غير المشروعة أو شخص ليست له أية مؤهلات خـَطـَر له في يوم من الأيّام أن ينشر مقالاً على الإنترنت؟
Leave a Reply