الزيارة التي قام بها الرئيس باراك أوباما إلى الصين يوم الأحد الماضي هي زيارة “تاريخية” بأكثر من مقياس. وقد يجوز اعتبارها أكثر “تاريخية” من زيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى ثاني أكبر البلدان الشيوعية في عصر الحرب الباردة وفي ذروة التورط الأميركي في مستنقع الحرب الفيتنامية التي لعبت فيها بيكين إلى جانب حليفها الشيوعي اللدود الاتحاد السوفياتي السابق دورا بارزا في دعم الثوار الفيتناميين وإلحاق الهزيمة بالدولة العظمى التي لم تكن قد ذاقت طعم الهزيمة العسكرية مثلا.
الزعيم الأميركي الشاب ورئيس أفتى دولة في العالم يلتقي نظيره الصيني هياو جنتاو الذي تمثل دولته أقدم مجتمع من المجتمعات البشرية.
كان ثمة الكثير من مواضيع النقاش بين الزعيمين: من ملف إيران النووي إلى كوريا الشمالية والاختلال القائم في ميزان التبادل التجاري إلى مشكلة التغير المناخي.
لكن زيارة أوباما الصينية تأتي في حقبة أميركية مالية واقتصادية غير مريحة على الإطلاق للقوة العظمى فيما تخرج الصين رغم ثقل الخمسة آلاف سنة من التاريخ الذي ترزح تحته إلى المسرح العالمي مثل “دينامو من التفاؤل”. والتجربة والنمو. فقد تحدت هذه الدولة التي لا تزال تطبق نظاما شموليا في الحكم، انهيار الاقتصاد الكوني بثباتها، أما شعورها بأنها القوة العالمية الصاعدة فلم يكن أبدا بأقوى مما هو عليه اليوم.
الولايات المتحدة، على وجه النقيض تبدو وقد باغتتها الشيخوخة والوهن المبكرين، والمزاج القومي الأميركي لايزال يترنح تحت وطأة النكسات المالية المتتالية فيما خطوط التماس السياسية بين الجمهوريين والديموقراطيين لا تتوقف عن تبادل الاتهامات بـ”إضعاف أميركا”. حيث كان أغرب ما جاء به الجمهوريون قبل أيام سوقهم اتهاما لإدارة الرئيس باراك أوباما بتعريض الأمن الأميركي للخطر بعد إقرار محاكمة معتقلي غوانتنامو أمام محاكم جنائية على الأرض الأميركية!
والولايات المتحدة ربما كانت واحدة من أقدم البلدان الرأسمالية في العالم، بينما يمكن اعتبار الصين من أحدث الدول التي تنضم إلى نادي الرأسمالية في نظام بات يجمع بين حرية السوق وديكتاتورية السلطة، منذ انطواء حقبة ماوتسي تونغ وتولي مجموعة الشيوعيين “اليبيراليين” مقاليد السلطة قبل نحو ثلاثة عقود.
والرئيس الأميركي الذي يقوم بأول زيارة له إلى أكبر البلدان الدائنة للولايات المتحدة، لا يلام إذا انحنى صوب الزعيم الصيني هياو في لحظة من لحظات الزيارة وسأله بشغف: “ما الشيء الصحيح الذي تقدمون عليه ولا نقوم به، نحن الأميركيين؟”.
والسؤال الذي يرتسم في أفق الزيارة الصينية التي قام بها الرئيس أوباما هو: هل بإمكان القوة العظمى الوحيدة، لكن المهتزة، أن تتعلم شيئا من الصينيين. هذا السؤال قد لا يعجب المحافظين الأميركيين أو من تبقى منهم، وقد يجادل هؤلاء بأن الصين هي دولة دكتاتورية وبأن حزبها الشيوعي الحاكم يتعامل بفظاظة مع أي تحد لسيطرته.
والصين تبقى نسبيا في عداد الدول “النامية” التي تواجه مشاكل ضخمة وفساد كبير وتقهقر بيئي.. ألخ، لكن الزيارة الرئاسية الأميركية، مع ذلك، تقدم لحظة تواضع للولايات المتحدة وهي تراقب “الأشياء الصحيحة” التي تقوم بها الصين، وتجعلها في منأى عن التداعيات الكارثية للأزمة المالية العالمية. لكي يسأل الرئيس أوباما المسؤولين في البلد المضيف، ماذا يمكننا نحن الأميركيين أن نتعلم منكم. وبالتالي العودة بنصائح صينية ثمينة يتسلح بها الرئيس أوباما في معركته الإصلاحية الشاملة للنظام الرأسمالي الأميركي الذي أصيب بالشلل مع أول تحد جدي له.
ربما لا توجد ترجمة مباشرة إلى اللغة الصينية لروح عبارة “القدرة على الفعل” غير ان لهذه العبارة ما يقابلها في اللغة الصينية: “تقدم إلى الأمام بشجاعة” والصين امتلكت منذ سنوات طويلة روح “القدرة على الفعل” التي لا تخطئ. الأميركيون من جهتهم يعرفون هذه العبارة جيدا، وهي التي كانت تقدم تعريفا للقوة الأميركية فيما مضى.
المنتقدون للنظام الشمولي الصيني يجادلون بأنه نظام تنطبق عليه مقولة “القدرة على الفعل.. وإلا” وهذا صحيح إلى حد كبير، ولا يوجد في أميركا حاضرا من يجرؤ على القول بأن على أميركا أن تتبنى نظام “الحكم الاستبدادي” السائد في الصين. وأميركا ليست بحاجة مثلا إلى تشريد عشرات آلاف الناس بهدف بناء سد كبير مثلما فعلت الصين في مقاطعة هيوبي بين العامين 1994-2006. والحقيقة أن قيمة المساءلة في الحكم هي ما يمكن للصينيين أن يتعلموه من الأميركيين. لكن في المقابل ليس بالضرورة أن تكون شيوعيا لكي تتساءل عن مدى نجاعة الدولة الرأسمالية العظمى في وضع وتنفيذ المشاريع الطموحة.
وفي حين تتخلى الولايات المتحدة عن دورها الرائد في مجال صناعة السيارات، تنام الصين وتستيقظ على التفكير في كيفية التحول إلى لاعب كوني في هذا المجال.
يقول جيمس ماكريغور الرئيس السابق لغرفة التجارة الأميركية في الصين: هنالك شيء أساسي يمكننا تعلمه من الصين وهو وضع الأهداف لأنفسنا، ثم وضع الخطط لتنفيذها والتركيز على دفع بلادنا قدما..
“هؤلاء الناس (الصينيون) أخذوا الخطط الخمسية القديمة ووضعوها على رؤوسهم، وعوضا عن التقرير: اية مصانع تحصل على المواد الخام وأية سلع يتم إنتاجها وكيف تتم عملية التسعير وفي أية أسواق تباع، فإن خططهم الآن تشتمل على مفهوم: “كيف بإمكاننا أن تقوم ببناء صناعة شرائح سيليكون ذات مستوى عالمي في خلال خمس سنوات”؟
الرئيس باراك أوباما يحاول جاهدا حث “الصين الصاعدة” على لعب دور أكبر على المسرح الدولي، تزاوج فيه بين النمو الاقتصادي و”تنامي المسؤوليات” لكن الصين لاتزال حتى الآن تقاوم هذه الرغبة الأميركية وتعمل وفق حكمة زعيمها الشيوعي الإصلاحي الراحل دينغ سياو بينغ الذي تجرأ على تعاليم “الثورة الثقافية” لمعلمه الأسبق ماوتسي تونغ، وحذر الصينيين بالقول: “أخفوا طموحاتكم وخبئوا مخالبكم”.
فهل يستطيع الرئيس باراك أوباما أن ينهي مفاعيل “الثورة الريغانية” القائمة على انفلاش السوق وغياب الرقابة الحكومية اللذين يكادان يوديان بالاقتصاد الأميركي إلى مهاوي التهلكة؟
وهل يفلح الصينيون في تغيير بنية التفكير الأميركي وأن يجعلوا من باراك أوباما “دينغ سياو بينغ أميركيا” بدلا من الخضوع إلى رغبة أميركية عاجلة في إنقاذ البلد المدين لهم بأكثر من 800 مليار دولار؟
Leave a Reply