المراقب لمجريات المواجهة الإعلامية المصرية الجزائرية المندلعة منذ إطلاق صفارة نهاية اللقاء الكروي بين منتخبي البلدين العربيين في الخرطوم، الأربعاء قبل الماضي، وما سبقه وتلاه من “تعبئة جماهيرية” واكبت مجريات المنافسة على التأهل لبطولة المونديال الكروية، يحار في تفسير هذا الكم من التوتر والشحن العصبوي الوطني في كل من البلدين العربيين الشقيقين وصاحبي التاريخ الطويل من النضال في سبيل قضايا تحررية ووطنية وقومية.
وأذا أراد أحدنا البحث عن “قضية” فيما يجري بين البلدين لن يجد ظاهرا أكثر من الحنق والإحباط لدى البلد الخاسر (مصر) والاحتفاء والتشفي لدى البلد الفائز (الجزائر) أما الخلفية الحقيقية لهذا الصراع العربي-العربي المستجد فلا يحاول إعلام البلدين إظهارها علنا، وهي في الواقع ترتبط ارتباطا وثيقا بأزمة بنيوية يعيشها نظاما البلدين، كما معظم الأنظمة العربية، وإن كانت أزمة أحدهما (مصر) تبدو أكثر تجليا مع اقتراب نهاية ولاية الرئيس المصري الطاعن في السن وبروز أزمة توريث تهدد بالتحول إلى أزمة نظام في هذا البلد العربي الذي نعم باستقرار سياسي نسبي. أما الجزائر فقد جرى استفتاء على التجديد لرئيسها المتقدم في السن أيضا، لكنه يبغي توكيد شرعية مشكوك فيها في أقل توصيف.
هكذا تتحول اللقاءات الرياضية إلى “قضية وطنية” ويتم تجنيد الإعلام (الرسمي بمعظمه) لخدمة هذه القضية ونسمع في برامج “التوك شو” من النوع الذي يقدمه “الإعلامي” عمرو أديب على قناة “أوربت”، تهديدات مباشرة واستعدادا لإطلاق شتائم من “العيار الثقيل” على الهواء مباشرة إذا سولت لجزائري نفسه الاتصال ومحاولة التهجم “على بلدنا”.
أبناء رؤوساء، رؤوساء تحرير صحف، صحفيون، فنانون، اصطفوا في عراضة “إعلامية” تشهيرية غير مسبوقة لشد العصب الوطني واتهامات لا أخلاقية تطال رموزا نضالية في كلا البلدين، ودعوات “للأخذ بالثأر” وتهديدات وصلت إلى أعلى المنابر عندما خاطب الرئيس مبارك مجلس الشعب متعهدا “بحماية المصريين أينما وجدوا” لكأننا في حرب حقيقية لم يعد ينقصها سوى أسلحة المدفعية والطائرات والمشاة!
مما لاشك فيه ان إعلام كلا النظامين قد أخطأ خطأ مميتا في تضخيم حجم “القضية” أمام جماهير الكرة عندهما وجرى بصورة شيطانية تصوير الربح والخسارة بصفتهما مسألتين مصيريتين تتوقف عليهما الكرامة الوطنية.
في الشوارع وعلى جنبات الملاعب لم تخل المواجهة من عنف لا فائدة في السؤال عن المتسبب به، لأن هذا الأمر من طبائع الأمور الكروية في معظم أنحاء العالم. واللبنانيون الذين انقسموا انقساما مذهبيا مقيتا بين ناديي “النجمة” و”الأنصار” تمكنوا رغم حدة انقساماتهم من تجاوز هذه المحنة وإن يكن على حساب الجو التشجيعي الذي غاب عن الملاعب اللبنانية بصورة شبه كلية في السنوات الأخيرة، ولم نسمع أن هيفاء ونانسي مثلا، تصطفان مع هذه الجهة أو تلك مثلما فعلتا في الموقعة الجزائرية-المصرية!
لكن يبقى السؤال الذي لا يرغب المصريون نظاما وأجهزة إعلام في الإجابة عنه: أين القضية الحقيقية في اصطناع خلاف مع بلد عربي شقيق شاء الحظ الكروي أن يكون في صفه ويتأهل لتمثيل العرب في مونديال 2010 في الصيف القادم؟
ومن غير أن نبرئ الجزائريين نظاما وإعلاما وجمهورا من تبعات ما جرى وبشاعته في المشهد العربي المزري أصلا، يجب أن نسأل الأخوة المصريين: علام هذه الضجة الكبرى؟ أوليست مصر “أم الدنيا” والشقيق الأكبر والأقدر على التسامح والاحتضان، وتجاوز “النكسة” التي أصابت منتخبهم الوطني الذي يتمتع باحترام جماهير عربية كثيرة، والنظر إلى التأهل الجزائري بعيدا عن التعصب الوطني في البلد الذي توقدت شعلة القومية العربية في ثورته وقيادته الناصرية وعمت مختلف أرجاء الوطن العربي، ومن بينها الجزائر، بلد المليون شهيد؟
واين الحكمة والتواضع أيها الأخوة المصريون في تعيير الجزائريين بتعليمهم الإسلام واللغة العربية؟ العرب ليسوا بحاجة إلى شوفينية مصرية أو جزائرية أو خليجية أو شامية. فلديهم من التشرذم والضعف والتقهقر على المستويات السياسية والاقتصادية والتنموية ما يكفي ويفيض. ولن تفعل هذه الممارسات الشوفينية سوى أن تزيد من تشويه الصورة الحضارية والنضالية للبلدين العربيين اللذين قدما عبر التاريخ نموذجا مضيئا لحركات النضال والتحرر.
أليس من المعيب أن يصل بنا الأمر إلى حد أن ينبري الإعلام الإسرائيلي إلى طلب التهدئة بين البلدين العربيين في لهجة شامتة وساخرة من شعوبنا وأنظمتنا؟
لن ينجح النظام المصري وأجهزته على الأرجح، في إبعاد شبح مشكلة التوريث التي تذر بقرنها في أرض الكنانة، والأجدى لهذا النظام أن يرأف بالجماهير المصرية ويمتنع عن الإمعان في “تدويرها” في لعبة الكرة المستديرة لغايات سياسية بلا أي أفق وطني أو قومي.
أما الجزائريون جمهورا وإعلاما فكان يجب عليهم أيضا الحذر من الانجرار إلى هذه المعركة المصطنعة والابتعاد عن إطلاق نعوت مسيئة بحق شعب عربي برمته قدم تضحيات كبيرة للقضايا القومية والتحررية، وحصر توصيفه بـ “أحفاد فيفي عبده” و”المتآمر على شعب غزة”!
فالجزائريون الذين يعرفون أكثر من غيرهم تضحيات الشعب المصري وثورته الناصرية في نصرة كفاحهم ضد المستعمر الفرنسي، كان بإمكانهم العض على الجراح خصوصا بعد فوز منتخبهم وتأهله، والعمل على سحب فتيل التوتر بدلا من الإسهام في تأجيجه.
وخلاصة القول إن المواجهة التي شهدناها بين البلدين الشقيقين حملت ولاتزال من “الدونكيشوتية” والعبثية، وفي غياب أية “قضية” حقيقية ما يجعل الجبين العربي يندى لها خجلا.
Leave a Reply