في العام 1988، وعندما كانت الانتفاضة الأولى في أوج ازدهارها، وفي الأيام التي سبقت “الاحتفال بذكرى الاستقلال التاسعة والعشرين لمنظمة التحرير الفلسطينية” الذي كان قد أُعلن عنه في ذلك الحين، التقيت بعدد من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لمناقشة خططهم بخصوص الاحتفال، وسألتهم في ذلك الوقت: هل أنتم جادون في ذلك؟ فأكدوا لي أنهم جادون.
بعد ذلك قررت أن أتابع الأمر، كي أرى كيف ستبدو الصورة، ولكي أعرف ماهية الخطط اللاحقة لتطوير فكرة “يوم الاستقلال”. فيما بعد منحت الكثير من الدول اعترافا دبلوماسيا كاملا للفلسطينيين، ومنحت لقب سفارة للبعثات الدبلوماسية الفلسطينية، كما تم إحياء الانتفاضة بانتفاضة أخرى غير أنه لم يحدث شيء بعد ذلك، سوى أن الولايات المتحدة، وفي إطار رغبتها في تعزيز علاقاتها مع الدول العربية عقب حرب الخليج الثانية، رعت مؤتمر مدريد للسلام. والشروط المجحفة التي فرضت على مشاركة الفلسطينيين في هذا المؤتمر أظهرت بجلاء مدى الهشاشة التي تعاني منها الدولة الفلسطينية، وذلك عندما أصرت إسرائيل التي لم تكن تعترف بالدولة الفلسطينية، وإنما بفلسطينيي الضفة الغربية وغزة فحسب على أن يكون اشتراك الوفد الفلسطيني في المؤتمر ضمن الوفد الأردني.
أما الفترة التي تلت مؤتمر مدريد، فقد شهدت بالتأكيد بعض التقدم حيث برزت منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في محادثات السلام التي دارت مع الجانب الإسرائيلي في العاصمة النرويجية أوسلو وفيما بعد ذلك.
ولكن ما الذي حدث للاحتفال بالذكرى التاسعة والعشرين لاستقلال فلسطين؟ لم يحدث شيء، باستثناء أن مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن أرسل عام 1989 دعوة لممثلي الدول المختلفة لحضور حفل استقبال للاحتفال بذكرى يوم الاستقلال الفلسطيني في الثاني من ديسمبر!
وفي السنوات التالية، تم نسيان تاريخ التاسع والعشرين على الدوام ولم يتم احترامه على الإطلاق. وكان الاستنتاج الذي خرجت به من ذلك أن المسؤولين الفلسطينيين لم يكونوا جادين عندما تحدثوا معي حول هذا الأمر في المرة الأولى.
كانت هذه الذكريات لا تزال حية في رأسي عندما استقبلت الإعلان الفلسطيني الأخير الخاص بإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة من جانب واحد، ثم السعي بعد ذلك للحصول على الاعتراف الدولي الرسمي بها. كان جزء مني يميل للاعتقاد أن ذلك الإعلان، ربما يمثل أول مبادرة فلسطينية خلاقة منذ بعض الوقت، إلا أن جزءاً آخر كان يعتقد أن منظمة التحرير الفلسطينية ربما لا تكون جادة هذه المرة أيضاً.
كانت معطيات الواقع تؤيد ذلك: فمفاوضات السلام ظلت تراوح مكانها قبل أن تصل في النهاية إلى طريق مسدود لم يخلف سوى اليأس والإحباط للشعب الفلسطيني، الذي لم يعد يثق بنوايا إسرائيل ولا بمصداقية أميركا كوسيط نزيه، ولا بجدوى عملية المفاوضات ذاتها، علاوة على أن المنظمة وجدت نفسها معرضة لخطر فقدان آخر جزء من قاعدتها الانتخابية بسبب أدائها في الفترة الأخيرة الذي تراوح ما بين الخاطئ والضعيف، وبالذهاب إلى آخر المدى في بعض المطالب ثم التراجع بعد ذلك بشكل محرج.
هذا عن منظمة التحرير الفلسطينية، أما الولايات المتحدة فقد فشلت هي الأخرى في كسب الثقة. فبعد بداية بدت قوية، أظهرت الولايات المتحدة العديد من الدلائل التي تثبت أنها لم تعد تعير المطالب الفلسطينية آذانا صاغية، وهو ما تم بطريقة أدت إلى إثارة غضب العرب، ودفع العديد منهم إلى فقدان الأمل في هذه الإدارة.
لقد كان الإعلان “الحقيقي” للاستقلال كفيلا بأن يكون إضافة لخطة سلام فياض التي تستغرق عامين من أجل تكوين المؤسسات والقدرات، التي تمكن من بناء الدولة بعد ذلك. لقد كان أملي أن يكون ذلك هو المقصود، بيد أنني سمعت مؤخراً قائداً فلسطينياً يشرح أن المقصود حقاً بهذه الممارسة ليس الإعلان من جانب واحد عن إنشاء دولة فلسطينية، وإنما أن يعمل ذلك الإعلان كنداء للأمم المتحدة يطالبها بإعادة تأكيد التزامها بحل الدولتين. عندما سمعت منه ذلك قلت لنفسي: إنهم ليسوا جادين… هذه المرة أيضا؟!.
Leave a Reply