..وأخيراً ذاب الثلج وبان المرج وعلا الصخب السياسي في لبنان وهدد البعض بالويل والثبور وعظائم الأمور، بعد الدعوة لإنشاء ما يسمى بالهيئة الوطنية العليا لإلغاء “الطائفية السياسية” في بلد العلل والعاهات والفتن المذهبية!
انها ملهاةٌ جديدةٌ وتسليةٌ مستحدثةٌ تلك التي يتلهى بها أهل السياسة في لبنان الجديد بعد التخلص من قطوع “حكومة الوحدة الوطنية” وبعد ملهاة “السيادة والحرية والإستقلال” المضحكة والمسلسل الكوميدي الذي لا فيه “فكاهة ولا مأزيه” (رحم الله أبو عنتر) المسمى “الأكثرية تحكم والاقلية تعارض”، طبعاً لاننا نعيش في وطنٍ نموذجي في التعددية الحزبية والتنوع المدني داخل الوحدة الوطنية، لا في وطن الفساد والديمقراطية المذهبية والرشاوى السياسية والقبائل الدينية المتناحرة!
فالأرزيون (ايتام جون بولتون ملهم “ثورة الأرز”) الآذريون من جوقة “١٤ آذار” أو ما تبقى من فلولهم التي فرطت سبحتها منذ “فوزهم” إنتخابياً وخسارتهم شعبياً، قامت قيامتهم على مجرد الإعلان عن تشكيل هيئة تسعى، بعد عمرٍ طويل، إلى إلغاء “الطائفية السياسية” وكأنهم فوجئوا بذلك أو أنهم سمعوا عن ذلك لأول مرة، لا في العام ١٩٨٩ خلال إنجاز إتفاق الطائف! لقد إنتظر البلد ٢٠ عاماً بالتمام والكمال لكي تبدأ هيئة حكومية بالنظر في إمكانية إستئصال الطائفية السياسية-هذا المرض العضال الذي زرعه المستعمرالفرنسي حمايةً لحقوق الطائفة المالكة التي صنع لها وطناً وكياناً عنصرياًعلى مقاسها من دون أن يخطر على باله حقوق الطوائف الأخرى. فكيف لو تطورت الأمور من النظر بالمسألة إلى الدعوة للتخلص فعلياً من الورم الخبيث نهائياً وإلى الأبد؟ وإلى أن يتحقق هذا الحلم قد تمضي مئة سنة أخرى وحفنة من الحروب الأهلية فلم العجلة!
ثم يسألونك عن التوقيت في هذا الطرح في هذا الوقت بالذات، قل وهل الذي فيه علةٌ يتركها بلا علاج أم يسارع إلى مداواتها ويستأصل شأفتها؟ إلا إذا إعتبر أصحاب الكيانية أن الطائفية زيناً لا شيناً وهذا هو التفسير الوحيدلاستنفارهم المعيب.
لقد فلقنا عتاة بقايا الكيانية والاقطاعية الدينية الحديثة بإتفاق ألطائف الذي أنهى أطول حربٍ أهليةٍ عرفها الكيان سببها تفضيلهم حرق الكيان على أن لا يصبح وطناً مقتطعاً لهم وحدهم، فقدسوا بعض البنود واغفلوا البنود التي لا يستسيغها ذوقهم غير السليم واولها بند إنشاء هيئة عليا للعمل على إلغاء الطائفية السياسية. هذا البند ترسخ في المادة ٩٥ من الدستور اللبناني الذي عدل لأول مرة بعض ألطائف بعد أن كتب في عهد نابليون بونابرت،أي أن هناك نصاً دستورياً يلزم رئيس مجلس النواب (الذي للاسف يجلس تحت قبته اليوم أطفال السياسة وعقول ربات الحجال، وبالامس جلست تلك المرأة التي أكل شارون من طعامها ألشهي) بتأليف الهيئة وهذا كما أسلفنا ليس جديداً. ولعل أطرف ما سمعنا هذا الاسبوع رد البطرك صفير، الذي كان عروبياً في يوم ما (لمدة ٢٤ ساعة فقط لا غير وتنذكر وما تنعاد)، حين قال أنه تألفت لجان وهيئات في الماضي لالغاء الطائفية ولم يحصل شيء! وكأن الفشل (الذي سببه، بالمناسبة، أصحاب الكيانية) مبرر لعدم تكرار المحاولة في معالجة داء لئيم، هذا إذا خلصت النيات.
وبعد معزوفة اللجان وعدم جدواها أتت من البطرك،الذي أحبط مرتين لعدم الأخذ برأيه في موضوع المرشحين لرئاسة الجمهورية ومازال يشعر بخيبة أمل بسبب تأليف حكومة تجمع الأقلية والأكثرية، سمفونية إلغاء الطائفية “من النفوس قبل النصوص”! عجيب هذا الكلام الذي يأتي من نفس القائل بأن على المسيحي أن ينتخب المسيحي والمسلم ينتخب المسلم! فكيف تزول الطائفية من النفوس بعد ذلك؟ وغريب قوله الإنشائي هذا، الذي ما هو إلا قنابل دخانية، وهو الذي رفض تخفيض سن الاقتراع حتى يمنع الشباب من سن ١٨ عاماً وما فوق من الانتخاب! والسبب في ذلك، ونقوله بكل جرأة ومن دون أن نتخبى وراء أصابعنا، هو أن الطائفة الشيعية هي طائفة فتية وبالتالي فان أعداد مقترعيها سوف يفوق الأعداد الاخرى فلو الغيت الطائفية السياسية تأملوا حجم الكارثة التي يجزع منها عتاه الكيانية من أصحاب الامتيازات. ولربما لهذا السبب يحاول البطرك أن يخرج هذه الطائفة الشيعية من انتمائها الوطني!
ثم أن النفوس لا تتغير من دون نصوص ترعاها وتضع لها مسؤوليات وواجبات. فهل قامت الأديان السماوية من دون كتب ونصوص جاءت لشفاء النفوس؟
إن هذا الشعار الأجوف لا يسمن ولا يغني من جوع وما هو إلا للتعمية والمماطله، وهو حجة أصبحت قديمة وعفا عنها الزمن. واليوم هو غير الأمس ولن يبقى لبنان البلد الأكثر تخلفاً في العالم حيث لا يمكن لطفل فيه أن يصبح رئيساً للجمهوريه إذا لم يكن من الطائفة المالكة!
لا ندري ما رأي البطرك بقول حليفه السابق وليد جنبلاط الذي تساءل ما المانع من التداول في الرئاسات، وهذا أفضل “تساؤل” من جنبلاط منذ زمان طويل.
يبقى أن نستذكر سماحة الامام السيد موسى الصدر أعاده الله سالماً غانماً الذي سبق عصره وكان أول من أطلق الصيحة من خطر الطائفية
Leave a Reply