هامش: قتلت السيول التي ضربت السعودية مؤخراً أكثر من مئة شخص، إضافة إلى عشرات المفقودين!
انزعج جدي كثيراً عندما لم يصدّق الحاضرون أن الإنسان قد صعد إلى القمر، وأن ما يرونه مجرد كذبة من كذبات التلفزيون. ورد جدي بكلمة واحدة سأظل أسمعها كوصية ذهبية: العلم!..
في مرات أخرى، كان جدي يتكلم بحماسة عن العلم، وكان يبدو لي شبه واثق. في الواقع كان جدي الشخص الوحيد الذي آمن أن بإمكان الإنسان أن يعرف مواعيد المطر والرياح والثلج والصحو، رغم أن الآخرين كانوا يرون في ذلك تجرؤاً على الله ومشيئته، لكن ذلك لم يثنِ جدي الذي تمتم بصوت خفيض: العلم!..
والحقيقة أن التلفزيون (السوري) لم يساند جدي في موقفه الجديد والباسل من العلم، حتى أصيب بالحنق. فطوال شهر كامل، ظل مذيع النشرة الجوية يبشر الأعزاء المشاهدين بأمطار غزيرة تعم جميع مناطق القطر، من دون فائدة. وفي كل مرة كان جدي يفتح الشباك وينظر إلى السماء بعد انتهاء النشرة الجوية، ويقول، وكأنه يخبر جدتي في شبه إيماء أنه يؤمن بالعلم وبالنشرة الجوية: أن المطر قادم! فترد جدتي في شبه إيماء أنها لا تؤمن بالنشرة الجوية: أنه من يوم ما شفنا وجهك (تقصد المذيع) ما شفنا الخير، في شبه دلالة أنها لن تمطر. فيغضب جدي وتنتفخ أوداجه، وتشعر جدتي بالخطر، فتذهب إلى غرفة النوم الواقعة قريباً من النافذة الغربية، مقابل الصالون، وجانب غرفة الضيوف، وهناك تكتم أنفاسها كي لا يزيد غضب جدي. ولأن غرفة النوم والنافذة الغربية والصالون وغرفة الضيوف يقعون جميعاً في غرفة واحدة، فهذا يعني أن غضب جدي سينفجر في أية لحظة، ولأي سبب عابر. أما السبب الحقيقي فهو شعور جدي أن جدتي لا تسانده في معركته العلمية، إذ كيف تقول إنها لن تمطر!..
وهكذا خسر جدي معركته العلمية بالضربة القاضية، عندما أعلن مذيع النشرة الجوية: “أن غداً سيكون نهاراً مشمساً ودافئاً، وأن البحر هادئ وخفيف ارتفاع الموج”. ورغم أن جدي فتح النافذة ورأى النجوم في السماء، وأومأ لجدتي أن غداً سيكون نهاراً مشمساً ودافئاً، إلا أن جدتي أضمرت شيئاً آخر. فلما كان الغد، بدأت تمطر بغزارة ولمدة أربعة أيام متواصلة فقط، لدرجة أن السيل دخل الكثير من بيوت الضيعة من الشبابيك.
وبسبب السيل اختفت معالم الجسور الوطنية، ما أدى إلى حدوث كارثة ما تزال عالقة في أذهان الجميع حتى الآن، فقد انحرف أحد الباصات عن الطريق الدولي، والذي عرضه خمسة أمتار بالتمام والكمال، وانزلق إلى النهر، ما أدى إلى بعض الخسائر البشرية. ولم يتجاوز عدد الغرقى في ذلك الحادث عدد ضحايا الثورة الفرنسية بكثير، فقد غرق خمسة وثلاثون شخصاً فقط، أي جميع ركاب الميكرو ما عدا السائق!..
وكان وصول قوات الإنقاذ سريعاً (لا أعرف الإسم الحقيقي لهم)، فقد وصلوا بعد يوم واحد فقط، وليس بعد أربع وعشرين ساعة كما يظن بعض من باعوا أنفسهم للشيطان. وكان فريق الإنقاذ مدججاً ومحترفاً ويقبل النقاش والرأي الآخر، إذ استمرت النقاشات والمداولات إلى ما بعد الظهيرة، حتى استقر الرأي أخيراً أن يقوم الغواصون بالغوص في النهر وانتشال الجثث.
تدخل أحد الفلاحين واقترح بذكاء فطري نجا بأعجوبة من التدمير الممنهج: أن لا فائدة من الغوص، لأن الجثث العالقة في الميكرو قد تم انتشالها من قبل الأهالي، وأن الجثث الأخرى لا بد وأن التيار قد سحبها بعيداً، كما أن الغواصين لن يستطيعوا الرؤية في المياه الموحلة، ثم أبلغ الفريق بأنه يوجد اختناق في النهر على بعد أربعة كيلومترات إلى الشرق، ومن الأفضل أن يقوموا بنصب شبكة صيد سمك هناك، أي شبكة سمك!..
ولم يرد أحد عليه من مسؤولي قوات الإنقاذ، لأنو الناس مو سمك. وقام الغواصون الخمسة بالغوص لساعات طويلة بلا فائدة، ولم يتوفقوا إلا عندما كاد أحدهم يموت من الصقيع..
وبالرغم من هذه الحادثة المؤلمة ظل جدي يسمع النشرة الجوية ويفتح النافذة وينظر إلى السماء، وظل يتابع المسلسلات الأجنبية واللقاءات. وفي إحدى المرات، كانت مجموعة من الرجال يتحدثون ويتناقشون، فالتفت نحوي وسألني بشكل مباغت: شو يعني الديمقراطية؟!.. ولم أجبه بالطبع، والمؤكد أن جدي لم يصدق التلفزيون هذه المرة…
Leave a Reply