للوهلة الأولى، يبدو غريباً ومدهشاً وصادماً، أن يكون “الكلب” أول حيوان يقوم الإنسان بترويضه، وتدجينه. حدث ذلك منذ حوالي 12 ألف سنة، وبعد أربعة آلاف عام، قام الإنسان بترويض وتدجين الأبقار والأغنام، وبعدها قام بتدجين الطيور والأرانب والخيول. وإذا معقولاً ومفهوماً أن يقوم الإنسان بتدجين الحيوانات لتسخيرها في خدمته، والاستفادة من منتجاتها، فلماذا تأخر الإنسان أربعة آلاف حتى قام باقتناء الحيوانات اللبونة وتربيتها، وما مبرر انتباه وإصرار الإنسان على ترويض الكلاب، التي هي من فصيلة الذئاب، منذ اللحظة الأولى؟ والجواب ليس صعباً بالطبع، فالإنسان روّض الكلاب لتقوم بحمايته. هكذا إذن.. الإنسان منذ البداية يشعر بالخوف والتهديد والخطر. طويل وموغل في القدم.. عمر الخوف البشري!
وإذا كان مبرراً ومفهوماً أن يقوم الإنسان بترويض وتدجين كل تلك الأنواع والأصناف من الحيوانات والطيور، لاستغلالها واستعمالها لتدبير شؤون حياته، كحراثة الأرض، وحمل الأثقال، وحراسة الممتلكات، والتزود بلحومها وألبانها وبيوضها، وجلودها..ألخ، فما هو مبرر تدجين الحيوانات الشرسة والطيور الجارحة، ما مبرر ترويض الأسود والنمور والقرود والأفاعي والتماسيح؟ الجواب هذه المرة: هو استعراض القوة..
حتى الآن، مازال الناس يؤمّون حفلات السيرك، لرؤية الأسود وهي تقفز بين حلقات النار، أو لرؤية القرود وهم يركبون الدرّاجات، أو مشاهدة الأفيال وهي تعزف على البيانو، أو الاستمتاع بمشاهدة الأفاعي وهي ترقص في القفف، أو على صدور الآنسات اللواتي يعملن بدورهن كمهرجات على حلبات السيرك..
يظن الكثير من المتفرجين، الذين غالبا ما يشاهدون المدربين وهم يفرقعون بكرابيجهم بالسياط مهددين حيوانات الاستعراض بالعقاب، أنه قد تم ترويض تلك الحيوانات البرية، الشرسة والعملاقة والمتوحشة، بالقوة. وقد لا يعرف الكثيرون أن الطريقة المثلى التي تعتمد في الترويض هي التجويع!
التجويع.. أو فلنسمها فلسفة التجويع!
ومعروف أن الجوع الذي يصيب الحيوانات، هو الدافع لشراستها ، وهو مبرر خطورتها كذلك، وكلما ازداد جوع الحيوان ازدادت ضراوته. وتأكدوا أن الأسد حيوان لطيف بعد نيل وجبة كبيرة من اللحم، لدرجة أن أنيابه الفتاكة تصلح لدعاية معجون أسنان. وأن الثعبان كائن أملس وحسب، بعد ابتلاع أرنب مثلا، في هذه الحالة سيكون سمه الزعاف في إجازة. وهكذا..
وكل ما يقوم به المدرّبون والمروّضون، هو تجويع الحيوانات المراد ترويضها حتى الموت، وفي تلك اللحظات يبدأ المدربون بتصدير الأوامر لتلك الحيوانات، التي ستقوم بتلبية الطلبات مقابل مكافأة صغيرة. وهكذا تعاد العملية عشرات المرات، وتتعود الحيوانات على الإصغاء والإذعان والرضوخ مقابل أوقية لحمة لأسد جبار، وموزة لسعدان، وقطعة سكر لحصان، و”بونبونة” لمعارض سياسي سابق. (الأمر أشبه بقصة “النمور في اليوم العاشر” للقاص زكريا تامر لمن حالفهم الحظ في قراءتها).
والإنسان أيضا قام بترويض الإنسان، بالطريقة ذاتها: التجويع!
وهكذا نستطيع أن نفهم لماذا يبلغ عدد الجائعين في الوطن العربي أكثر من أربعين مليوناً، وللسبب نفسه.. نستطيع أن نفهم لماذا يتضوّر عشرات الملايين الآخرون جوعاً إلى أبسط حاجيات الحياة الأخرى.
فهناك ملايين تتضور جوعاً لامتلاك غرفة، وملايين تتضور جوعاً لامتلاك سيارة، وآخرون يتضورون جوعاً لامتلاك تلفزيون وغسالة ومروحة كهربائية، وملايين يتضورون جوعاً للعيش بكرامة..
وبالطبع هناك أشخاص قليلون جداً، لا يتجازون المئات، يتضورون جوعاً لتسلم مقاليد السلطة التي سيأتي في رأس أولوياتها وخططها التنموية تجويع جميع المواطنين، إلا من رحم ربي!
الأخبار السعيدة في هذا المجال، أنه يوجد أشخاص قليلون (أيضاً) يعرفون كيف يستخدمون سياسة التجويع في سياق تكتيكي، وليس استراتيجي كالذي تنتهجه الحكومات، هؤلاء الذين يعرفون كيف يضرِبون عن الطعام من أجل إعلان مواقفهم واحتجاجهم..
Leave a Reply