كم هو مشوق الولوج في مفارقات وتناقضات الكيان الذي صنعه الاستعمار الفرنسي للطائفة المالكة وأقامه على أرضٍ اقتطعها من بلاد أخرى محاكاةً للكيان الوليد المغتصب في فلسطين، ولكنه لم يصبح يوماً وطناً أو دولةً بل “شبه لهم” ومنذ العام ١٩٢٠ عاش أصحاب الكيانية على وهم الديموغرافيا-السياسية ثم إستفاقوا عليه مرعوبين في كل مرة مع مطلع كل حربٍ أهلية ورجعوا القهقرى إلى الوراء بدل التقدم إلى الامام نحو التطور والحداثة وعادوا لسيرتهم المخزية السالفة بجعل الكيان صنماً من تمرطائفي وحين يحل الجوع يأكلوه!
والمفارقة أو الطامة الكبرى في لبنان أن الجميع أصبحت ذاكرتهم قصيرة وابتسارية بحيث أن السياسيين الأجاويد لم يعودوا يتورعون عن أن يصبحوا “جنبلاطيين” أكثر من دولاب اليانصيب البشري نفسه فيقلبون مواقفهم رأساً على عقب وأفقياً وعمودياً ويميناً وشمالاً، من دون وازع ولا رادع، صبحاً ومساء، وعند الطلب. ولم لا طالما أن قانون الستين الانتخابي هو رائد العملية الديمقراطية المذهبية في لبنان والمال السياسي والرشاوى والبرطلة والفساد هم من اللوازم والسمات الضرورية. فلا حسيب ولا رقيب لأن الناس ينسون حتى رسالات ربهم فكيف بترهات وتقلبات زعمائهم؟ (لهذا السبب سمي البشري “إنساناً”). لقد تعود ألناس أن “يحطوا بالخرج” كما يقول المثل ولم يبق هناك مجالٌ لأية مفاجأة تذهلهم أو توقظهم من سبات فقدان الذاكرة السياسية.
فبالأمس فقط، وبالضبط خلال الأربعة اعوام الماضية، لا نعلم إذا تذكر أحد كيف “فاع” هجين وخليط “١٤ آذار للفولكلور السياسي” العجيب من أتباع جون بولتون ودبليو (أبو حذاء) وشن هجوماً مقذقاً وعنيفاً غير مسبوق وغير مألوف في تاريخ السياسة الحديث على سوريا، رئيساً وشعباً وحكومةً ونظاماً، وساقوا ضدها إتهامات وأمطروها بأسماء ونعوت ما أنزل الله بها من سلطان وجردوا حملة كراهية عنصرية بشعة ضدها أدت إلى قتل عمال سوريين لهم أبناء وعيال وأهل وأصدقاء يحبونهم لكنهم فقدوهم إلى الأبد. وبالأمس فقط إستخدم وليد جنبلاط في إحدى خطبه الـ”١٤ آذارية” العنترية كل تعابير كتاب إبن المقفع “كليلة ودمنة” الحيوانية للصقها بالرئيس السوري، كما فعل باسم السبع (ضبع البرمبة الذي عندما كان يكتب في “السفير” أيام عز السوريين كان كالحمل الوديع المطيع لا يجرؤ على نشر عاموده قبل الإستئناس برأيهم ونصيحتهم ومشورتهم).
ومنذ زمنٍ ليس ببعيد، تمت الدعوة لإسقاط النظام السوري بعد إتهامه زوراً وبهتاناً بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري من دون قرينة أو إثباتٍ أو دليل وقبل إستكمال التحقيق وإستناداً إلى شهودٍ كاذبين على رأسهم الشاهد “العلك” محمد زهير الصديق مما أدى إلى الإعتقال التعسفي للضباط الأربعة لمدة ٤ سنوات من دون تهمةٍ أو وجه حق. وإن ننسى فلا ننسى كيف تمت الدعوة إلى إرسال سياراتٍ مفخخة إلى دمشق حقداً وإنتقاماً.كما لا ننسى أن السواد الأعظم من هؤلاء الموتورين، صيصان كونداليزا رايس، من مدعي “الحرية والسيادة والإستقلال” الذين كانت لحوم أكتافهم من خير سوريا، أصبحوا يدعون أنهم كانوا في داخلهم وفي سرائرهم من معارضي سوريا وأنهم كانوا مغلوبين على أمرهم أو أن غشاوة كانت تحط على عيونهم فتعمي قلوبهم والأبصار. لقد كانوا من أنكر شعوب الأرض قاطبةً للجميل واكبر جاحدي الفضل بحيث ينطبق عليهم قول المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا! فعلاً صدق القول “إتق شر من أحسنت اليه”!
هذا فقط غيض من فيض سلوكيات صغار “١٤ آذار”. أما اليوم فإنه غدٌ آخر حيث أن دنيا المواقف إنقلبت و”تسونامي” العداوات زالت بسحر ساحر وبقدرة قادر،وأصبح ألجميع يخطب ود الدولة التي كانت البارحة بعرفهم متهمة ومارقة والنظام الذي تفادوه كما يتفادون الوباء اضحوا يتسابقون إليه وكأنه سبق “الماراثون” الذي شاركت فيه هيفاء وهبي.!
لقد جاء الفرج إلى “أيتام بولتون” (الحائز على درع الأرز) عبر الموت المفاجيء لشقيق الرئيس السوري المرحوم ألشاب مجد حافظ الأسد فتذرعوا “بواجب” التعزية (كلهم واجبات ما شاء الله) ولم يعدموا وسيلة إتصال إلا واستعملوها لإعادة وصل ما إنقطع أثناء إدعاء السيادة. سبحان الله، من هتافات “هي ويللا سوريا طلعي برا” إلى “فاجئناكم مو؟”، إلى حمل صور بشير الجميل وعقل هاشم (الذي طوبه بطرك بكركي شهيداً)، إلى الإستيلاء على مقدرات الدولة عبر حكومة غير ميثاقية وغير شرعية وتهريب وتسريب المحكمة الدولية إلى الخارج (التي طمأنونا أنها آتية لا ريب فيها ولأجلها شلت حركة البلد مدة ٤ سنوات واليوم لا يكاد يذكرها أحد)، إلى التزلف والتملق للسوريين إلى درجة أن أحد نواب كتلة “المستقبل” الحريرية في عكار، رياض رحال، دعا إلى عودة الجيش السوري للحلول محل المقاومة، وإلى إعادة تعبيد طريق بيروت-دمشق ليعبرها سعد الحريري ثم من بعده جنبلاط (ماذا سيكون موقفه يا هل ترى بعد كل النعوت القبيحة التي اطلقها على غاربها؟) ثم تكر سبحة باقي القبضايات الذين كانوا يهددون سوريا ويتوعدونها. فبعد أن أبرق قباني وأمين الجميل وفؤاد السنيورة (لا غيره) معزين الرئيس بشار الأسد، لا نستبعد غداً أن يطلب التوبة مروان حمادا والجوزو وحتى رئيس “القوات” بالرغم من جعجعاته و”دنكوشياته” الصوتية الفارغة! والسؤال هنا، هل كان سيل التعازي من قبل “١٤ آذار” ممكناً عندما كان العداء لسوريا على أشده؟
الصورة بالأمس في دمشق كانت معبرة عن وفاة مرحلة سياسية مضنية ودفنت مع جنازة شقيق الرئيس بشار الأسد، وبدء مرحلة الربيع السوري (أتذكرون كم تهكم فارس خشان مع “أخشوناته” الآخرين على ريف دمشق، فماذا يقول اليوم مع جوني عبدو عراب “الشعبة الثانية”؟) عندما جلس بشار يحيط به عن يمينه ويساره قائدان حالي وسابق للجيش اللبناني الجنرالان قهوجي وعون. هذا المشهد ذكرني بالقائد السابق الآخر للجيش الذي قبل إنتخابه للرئاسة وبخه وقرعه وأنبه مصطفى علوش بعد حرب “مخيم نهر البارد” بسبب زيارته لسوريا آنذاك واصفاً إياه أنه موظف فقط، وذلك قبل أن يطوبه عمار حوري مرشح “١٤ آذار”!
سبحان مغير الأحوال!
Leave a Reply