تنازل الخطاب الأميركي عن لبنان من الحديث عن “ثورة الأرز” الذي ملأ فضاء الشرق الأوسط معظم فترة الولاية الثانية للرئيس السابق جورج دبليو بوش، إلى الإشارة إلى “شجرة الأرز المزروعة في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض منذ ثلاثة عقود” على لسان الرئيس باراك أوباما.
الإشارة إلى أرزة لبنان كانت واحدة من الأمور “الوجدانية” التي إتكأ عليها الرئيس أوباما لإظهار دعم إدارته للبنان “كشريك في عملية السلام” بمناسبة الزيارة التي قام بها الرئيس اللبناني ميشال سليمان إلى البيت الأبيض مطلع الأسبوع الفائت والتقى فيها الرئيس أوباما على مدى ساعة وربع الساعة.
والزيارة الرئاسية اللبنانية مثّلت إحدى المحاولات التي يبذلها الرئيس اللبناني “التوافقي” لإفهام الأقربين والأبعدين أن لبنان يحاول أن يكون دولة لها هامش ولو نسبي في حرية الحركة والتواصل مع العواصم العربية والعالمية، ولتأكيد أن مرحلة الوصاية السورية التي خضع لها قد طوتها التطوررات والأحداث مع حرص الرئيس اللبناني الشديد على مسايرة دمشق والتأكيد لها أنه يريد أفضل العلاقات وأميزها بين البلدين الشقيقين اللذين حكم التوتر وعدم الاستقرار علاقتهما منذ استقلال البلدين من الانتداب الفرنسي في أربعينات القرن الماضي، ولم يحدث “استقرار” في هذه العلاقة إلا في الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب الأهلية مطلع التسعينات بإتفاق الطائف الذي بقيت بنوده حبرا على ورق، وسادت في تلك الفترة سيطرة سورية شبه مطلقة على كل مفاصل الحكم اللبناني، ظللها شعار وحدة “المسار والمصير”.
الكلام الأميركي الذي رافق الزيارة ابتعد بشكل لافت عن إثارة أية حساسية سورية فلم يتطرق إلى موضوع المحكمة الدولية التي تدرك الإدارة الأميركية أنها تثير عصبا سوريا حساسا وأنها ربما كانت إحدى الإشكاليات البارزة التي أسهمت في تدهور العلاقة السورية-الأميركية الى جانب قضايا أخرى في عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش الذي حاول استخدام “عصا المحكمة” في وجه النظام السوري لجلبه إلى بيت الطاعة الإقليمي في العراق وفلسطين وقد اختار الرئيس أوباما كلماته بعناية فائقة وهو يتحدث إلى وسائل الإعلام بحضور الرئيس اللبناني وجاء حديثه عن لبنان كـ”دولة محورية” وعن “فعل ما يلزم لتشجيع لبنان ديمقراطي ومستقل وقومي”، في سياق سياسة الانفتاح التي اعتمدتها إدارته مع دمشق وبعد سلسلة من الزيارات التي قام بها مسؤولون أميركيون إلى العاصمة السورية، رغم تجديد الإدارة الديمقراطية “العقوبات” المفروضة على دمشق وهي عقوبات ذات طابع “سياسي” أكثر منه اقتصادي. وكان تنويه الرئيس أوباما بالترابط الوثيق بين قضايا الشرق الأوسط، وخصوصا عملية السلام والوضع الداخلي اللبناني إشارة الى اقتناع الإدارة الأميركية باستحالة عزل لبنان عن محيطه وطمأنة غير مباشرة لسوريا بأن إدارته لا تسير على منوال الإدارة السابقة التي حملت لبنان و”ثورة الأرز” فيه ما لا يحتملان، مما أدى إلى وصوله إلى حافة حرب أهلية لم يكن الرئيس السابق جورج بوش ليعبأ بمخاطرها على مصير البلد الصغير.
كذلك شكلت هذه الإشارة على لسان الرئيس أوباما دعما للموقع “التوافقي” الذي يعمل منه الرئيس اللبناني الذي لم تساوره أية أوهام في زيارته الأميركية، وهو التارك وراءه حكومة وليدة من مخاض عسير، لم تزل في حاضنة العناية الفائقة للتوافق السوري-السعودي المستجد، ويخشى عليها من الموت المبكر إذا تلاعب أحد بجهاز الأوكسجين الإقليمي الذي يمدها بالأنفاس ريثما تتمكن من التنفس بصورة طبيعية أو شبه طبيعية (الحديث عن الوحدة الوطنية في هذه الحكومة يدخل في باب الترفيه الممل الذي لا يجد الساسة اللبنانيون غيره لتهدئة جماهيرهم المعبأة والمتشنجة والمنقسمة).
بالطبع سيرى كثيرون في لبنان، خصوصا من يحصون أنفاس الرئيس ميشال سليمان ويراقبون حركاته وسكناته أن الأخير لم يحصل من الإدارة الأميركية سوى على كلام معسول عن متانة العلاقة الأميركية-اللبنانية وهؤلاء محقّون إلى حد كبير. وهم لم ينظروا بعين الارتياح أصلا إلى الزيارة الرئاسية اللبنانية، وربما أثار تأجيل البحث في المساعدات العسكرية للجيش اللبناني إلى العام المقبل ارتياحا لديهم.
والرئيس ميشال سليمان ليس من السذاجة بحيث لا يدرك مغزى “الزيارة الرئاسية” التي قام بها الجنرال ميشال عون الى العاصمة السورية قبل تنفيذ الزيارة الأميركية التي يعتقد أن أطرافا لبنانية نصحت الرئيس اللبناني بعدم القيام بها أو تأجليها إلى ظروف أفضل. والحفاوة السورية اللافتة بزيارة عون ومبادرة الرئيس بشار الأسد الى استقباله في جناحه العائلي في قصر الشعب تتخطى الأبعاد الشخصية المستجدة على علاقة أبرز الزعماء المسيحيين بدمشق الى أبعاد سياسية غير خافية. وثمة من استخلص أن دمشق أرادت إبلاغ سليمان قبل توجهه إلى واشنطن بأنها تتعامل معه كرئيس معلن للبنان، بينما تتعامل مع الجنرال عون كرئيس فعلي وكمتحدث أوحد باسم المسيحيين، ليس في لبنان بل في الشرق. بدا لافتا هنا هنا أن الحديث المنقول عن الرئيس بشار الأسد الذي خاطب عون في خلال أدائه واجب التعزية بشقيقه الراحل مجد حافظ الأسد عن حرص سوريا على حماية المسيحيين في لبنان والمشرق!
وترافقت أجواء الزيارة الرئاسية اللبنانية مع أصوات داخلية صوبت سهامها نحو الرئيس اللبناني، آخذة عليه قربه من تحالف “14 آذار” وتبنيه لرؤاها خلال مخاض عملية التأليف الحكومية، وهو ما حاول الرئيس اللبناني إثبات بطلانه عندما “أفتى” في خلال زيارته الى الكويت بجواز “توزير الراسبين” للمساعدة في حلحلة “العقدة العونية” آنذاك المتمثلة في الاصرار على توزير جبران باسيل، صهر الجنرال ميشال عون، مقابل مقاومة الرئيس المكلف سعد الحريري لهذه المحاولة والتي أدت إلى فشل عملية التكليف الأولى والانطلاق في عملية التكليف الثانية بمقاربة مختلفة للمطالب العونية أدت إلى الاستجابة لمعظمها.
وحسب الرئيس اللبناني أنه يعود الى بيروت وفي جعبته موقف لبناني أدلى به أمام الرئيس أوباما يطالب الإدارة الأميركية بالضغط على إسرائيل للانسحاب مما تبقى من أراض لبنانية محتلة في قرية الغجر ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا.
كما يفترض أن يعزز موقعه التوافقي ورعايته للحوار الوطني حول المسائل الخلافية بين اللبنانيين وأبرزها موضوع سلاح المقاومة الذي أحيل بـ”التراضي” الى طاولة الحوار التي يرعاها الرئيس سليمان.
وأما شجرة الأرز المغروسة في حديقة البيت الأبيض فقد لا يساعد حديث الرئيس أوباما عن قوتها ونموها والعمل على ريها مفيدا للرئيس سليمان الذي سيسمع أكثر من حجة ترد على هذا القول بأن من سقى الأرز والأرض من دماء شهدائه ليس بحاجة الى الري الأميركي!
هكذا يصير التدرج في الخطاب الأميركي من الحديث عن ثورة الأرز الى الحديث عن شجرة الأرز مدعاة للتأمل عن مدى جدوى الاعتماد على موقف أميركي داعم للبنان.
والرئيس سليمان يدرك في قرارة نفسه أن “توافقيته” ستبقى عنوان ضعفه أمام “الرئاسات” الأخرى التي وجهت اليه أكثر من رسالة انتقصت من هيبة الزيارة الأميركية وحاولت إفراغها من مضمونها قبل أن تحط طائرته، عائدة على أرض مطار رفيق الحريري الدولي في العاصمة اللبنانية
Leave a Reply