يتجه الوضع السياسي اللبناني إلى إعادة إنتاج معادلة الحكم التي كانت سائدة أيام الحريري الأب لجهة علاقته بسوريا التي سيرت عجلة الحكم في لبنان وفقا لمصالح رجالها الخاصة الذين كانوا مولجين بإدارة الملف اللبناني، مع فوارق تكاد تكون حاسمة في تجنب الوقوع في اخطاء تلك المرحلة وفي رفع المسؤولية عن كاهل القيادة السورية. وأهم تلك الفوارق انسحاب الجيش السوري من لبنان والاعتراف بضرورة العلاقات الدبلوماسية من خلال افتتاح سفارة سورية في بيروت، ولو بقي السفير السوري بعيدا عن الأضواء وعن الظهور المتكرر على المسرح السياسي اللبناني، فان مجرد الاقرار بضرورتها هو مؤشر للقدرة السورية على تبني سياسات تتلاءم مع المستجدات والمتغيرات. وهو ما مكنها الى حد بعيد من التحكم بخيوط اللعبة من وراء الحدود من غير أن تتحمل المسؤولية السياسية كما كان يحصل إبان الوجود السوري في لبنان. وهنا تبرز مفارقة كبيرة ولافتة في آن، فبعد أكثر من أربع سنوات ونصف من الانسحاب السوري من لبنان عام 2005 وبعد عزلة عربية وأوروبية وأميركية طويلة، تعود سوريا الى لبنان أقوى مما كانت، بل تكرس نفسها حاجة ضرورية تنشدها كل الأطراف الداخلية والخارجية، للاستقرار السياسي، بالرغم من خسارة حلفاءها في الانتخابات النيابية. وهي اذ نجحت في تخطي كل المصاعب التي مرت بها وفي احتواء الحملة الدولية العالمية التي شنت عليها منذ غزو العراق عام 2003 وكانت ترجمها الفورية باستصدار قرار مجلس الأمن رقم 1559، فإنه لم يكن ليكتب لها النجاح في ذلك لولا انعقاد أمرين في غاية الأهمية: الأول هو انتصار تموز الذي حققته المقاومة على اسرائيل عام 2006 والثاني هو التفاهم الذي انعقد بين حزب الله والتيار الوطني الحر وتحول الى تحالف استراتيجي قوي صمد أمام كل العواصف ومنها حرب تموز نفسها.
وإذ لم تتفاجأ القيادة السورية بالتفاهم “العوني-الحزبلاهي” فإن صمود المقاومة وانتصارها في حرب تموز ادهشها وأمدها بدعم سياسي أحسنت استخدامه واستثماره على الصعيد الدولي.
لم تعد سوريا تتدخل بكل شاردة وواردة في لبنان، من الأمن الى السياسة والاقتصاد، الى التعيينات في الإدارات، والتدخلات في مجمل شؤون الدولة، ولم يعد هناك وجود للوقع السيء الذي كان يحدثه الضباط والجنود السوريون من خلال تعدياتهم على المواطنين، وبالتالي فإن سوريا ربحت إضافة الى الورقة السياسية، الورقة الشعبية أو في الحد الأدنى حيدتها، وهذا ما يفسر استفاقة سمير جعجع بين الفينة والأخرى كي يذكر بدور سوريا السلبي في لبنان قبل أن يُهزج باسم سوريا وقائدها مرة اخرى كما فعل الكتائبيون ابّان التدخل السوري في لبنان عام 1976 عندما سجلوا أغنية تمجد الرئيس حافظ الأسد “حافظ الأسد بالقلب بتنعبد، أرزتنا بتقلك حبك للأبد”. واقتصر التدخل السوري في لبنان على عناوين عريضة تتعلق بالسياسات العامة، وأما الأمور الداخلية فإن لها أربابها في بلد المحاصصة واللامحاسبة وفي بلد المحسوبيات والطائفية.
من هنا، فان النفوذ السوري في لبنان يأخذ شكلا أكبر مع ظهور قليل، أو يكاد ينعدم هذا الظهور في النادي السياسي اللبناني، وهذا ما يمنح القيادة السورية هامشا أوسع للمناورة واللعب على تناقضات الحالة اللبنانية من أجل استثمارها على الساحة الدولية. ويمكن أخذ تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة مثالا في هذا المضمار.
وعليه فإن الأسد الإبن، بخلاف والده، يمسك بنفسه بناصية الملف اللبناني وإن بخطوطه العريضة مع ترك هامش كبير لحلفائه للتحرك والمناورة. فليس اللقاء المرتقب بين الأسد والحريري الابن سوى أحد تجليات الدينامية السورية التي حتمت على من يعتقد بأن دمشق هي وراء اغتيال والده، زيارتها ومصافحة رئيسها، والحصول منه على صك براءة معنوي يدفن الاتهام السياسي في قلب صاحبه ويكتمه الى أن تنطق المحكمة الدولية بكلمتها، (وربما لا كلمة) التي تخالف قناعة الحريري، وعندها لا بد من الاعتذار أن يشق طريقه في قلب الحريري إلى قلب الأسد.
Leave a Reply