الأسماك تفسد من رؤوسها، والبشر يفسدون من قلوبهم!..
والتجّار شطّار دائماً، يعلّبون الأسماك في علب السردين بعد قطع رؤوسها، لإزالة أسباب الإنتان (وقطعاً لمواصلة أحاديث سابقة). وما من طريقة ملائمة حتى الآن لإصلاح أحوال القلوب البشرية، وهذا من حسن حظ السياسيين و”الوطنيين” الذين يتاجرون بعواطفنا ومشاعرنا وأحلامنا..
في اللقاء الصحفي مع أبطال المسلسل السوري “باب الحارة” الذين زاروا ميشيغن مؤخراً، أدّى الممثل وفيق الزعيم “أبو حاتم” مشهداً ينتمي بشكل حاسم إلى “أجواء” باب الحارة، حين اعتبر “أن الذي لا يحب باب الحارة لا يحب الشام”!. قالها هكذا بكل تعابير وجهه وجسده المبالغ بها، والتي كانت على شكل مبالغاته الشائعة في أداء دوره لشخصية أبو حاتم، التي أراد لها أن تكون شخصية العكيد الحازم، في كل الأمكنة التي يتواجد فيها، في المقهى، في المطبخ، في الجبهة، وفي ديربورن..
وكنّا نظن أن حبّ الوطن يدخل في باب الإيمان (حبّ الوطن من الإيمان) فإذا به يدخل من باب الحارة، وبالتالي ولإثبات وطنيتنا و”إيماننا” فنحن مجبرون على حبّ “باب الحارة”. هكذا هي الطبخات المعدّة على عجل، على نار موقد لاهبة وقوية. ثمة وطن كامل تفوح منه رائحة الشويط..
في فن التمثيل، هنالك شيء يدعى “الكلاكيت”. والكلاكيت عبارة عن لوحة يسجل عليها رقم المشهد، واسم المسلسل، وعدد عمليات التصوير، لتسهيل عمليات المونتاج. مثلاً: إذا كان الكلاكيت يقول: مشهد 1، مسلسل الانتصار، المرة الخمسون. فهذا يعني أنه يتم تصوير المشهد الأول من مسلسل الانتصار للمرة الخمسين. وإعادة عمليات التصوير ضرورية من أجل الجودة الفنية، فأحيانا يعاد تصوير المشهد بسبب تفصيل صغير، أو بسبب مبالغة أحد الممثلين في الأداء (وهذا يسمى بـ”الأووفر”)، أو لأن أحد الممثلين لا يحفظ دوره جيداً. وكان أداء أبو حاتم في المؤتمر الصحفي فيه أوفر، ولم يكن من الممكن إعادة التصوير!
وقال أبو حاتم: “من لا يحب باب الحارة لا يحب الشام”، فقلنا له: “أووفر!”.
ولكن فعلاً ما علاقة التثميل بالوطنية، أنا أؤمن أن جميع الممثلين والمشاهدين وطنيون، فهذا شيء فطري (أليس الإيمان فطرياً حسب النظرية الدينية)، وأنا أؤمن أيضاً أن أكثر “الوطنيين” ممثلون.. التقمص والادعاء والتبجح هي الأعمال التي يتقنها الكثيرون.
ولكي تكون وطنياً على المقاسات المحلية في بلداننا، عليك أن تتعصب وتدافع عن كل ما يجري في بلادك، من عادات وتقاليد ومباريات كرة قدم ومسلسلات وأكلات وأزياء وأغاني هابطة، وبرامج سياسية، وكاريزما زعماء، في الوقت الذي تحلم فيه بهجرته ومغادرة أراضيه عبر قوارب نجاة، أو سباحة، أو تخيّلاً، أو تسللاً عبر الحدود البرية مع مهربي الحشيشة، وفي أسوأ الحالات.. عبر الانتظار، انتظار البرابرة..
وكسوريّ، لطالما أحسست أنني أنتمي للشاعر السوري ميلاغر (350 قبل الميلاد) الذي قال: “أيها الغريب.. إننا نقطن بلداً واحداً يدعى العالم!”. ومن حسن حظَ ميلاغر أنه عاش قبل 2350 عاماً، لأنه لم يسمع بالأغنية الدارجة: “أنا سوري.. آه يا نيالي”.
أنا سوري.. آه ما أتعسني!
وفقط في الفترة القليلة الماضية طالعت على صفحات الجرائد أخباراً ترفع رؤوس السوريين، وأحسست بالفخر والفرح والاعتداد، ولكن ذلك لم يدم طويلاً، ليس بسبب “خياناتي الوطنية” بل بسبب كون الأخبار تلك.. كاذبة. أنا سوريّ.. الإحباط هويتي!
وتقول إحدى تلك الأخبار، وقد نشرتها وكالة الأنباء السورية (سانا) باللغتين العربية والإنكليزية: أن صحيفة “نيويورك بوست” وصفت أحد الأطباء السوريين بالمعجزة، بسبب تشخيصه لمرض خطير أصاب إحدى الصحفيات العاملات فيها، الأمر.. الذي أنقذ حياتها. ولدى البحث الطويل (شكراً لغوغل) والمرهق لم نعثر على ذلك الخبر، ولا على إسم الطبيب، ولا على إسم الصحفية!
وتذكروا: من لا يصدق هذا الخبر، لا يحبُ “سانا”، ولا يحب سورية..
خبر آخر، شاع إلى درجة مثيرة، (تبنته “سانا” أيضاً) يقول إن بحثاً أجرته جامعة ميشيغن (ميشيغن يونيفرسيتي) عن النساء، أظهر أن السوريات هن الأكثر ذكاءً في العالم، وأن السعوديات هن الأكثر جمالاً ودلالاً. ولدى البحث والتقصي المستفيضين، لم نجد إسم تلك الجامعة، ولا إسم الباحثة الأكاديمي، ولا نتائج البحث.
هذه المرة لم أكذّب الخبر، لـ “اعتقادي” أن السوريات هن الأكثر ذكاء وجمالاً ودلالاً، حتى ولو جاءت نتائج الأبحاث والتقارير مخالفة لذلك.
التجّار شطّار، يضعون في علب السردين فلفلاً أحمر. و”الوطنيون” ساخنو الرؤوس لايفكرون بإضافة أي شيء إلى نظرياتهم المعلبة والمغلقة، وفي هذه الحال إذا خطر ببالك أن تضيف أي شيء (أو تحذفه، كما يفعل الفلفل الأحمر في علب السردين) إلى تلك النظريات البالية والمتهالكة، فالتخوين والتشكيك سيكون بانتظارك. ثمة.. فلفل أحمر سيء الصيت، دائماً..
Leave a Reply