حضرت منذ أيام قليلة، في أحد فنادق واشنطن الفخمة، حفل استقبال لمناسبة العيد الوطني لإحدى الدول العربية. وكانت درجة الحرارة في تلك الليلة متدنّية جداً (حوالي ثلاث درجات تحت الصفر)، ومشيت بعد الحفل مهرولاً إلى سيارتي التي اضطررت لإيقافها في مكان بعيد نسبياً عن موقع الفندق. وكنت أشعر في تلك اللحظات بلسعات الهواء البارد تلفح وجهي حتى مررت بجانب مقعد على رصيف الطريق، عليه أحد المشرّدين وقد افترشه للنوم مغطّياً نفسه بلحاف واحد. آلمني فعلاً هذا المنظر الذي واجهني وأنا الذي أشكو من البرد لدقائق قليلة ريثما أصل لسيارتي، وقادمٌ من حفلٍ كان فيه ما لذَّ وطاب من المأكولات، وفي شارع من الشوارع الفخمة في العاصمة الأميركية.
طبعاً هذا المشرّد المسكين، الذي اتخذّ من المقعد في تلك الليلة الباردة سريراً له، ليس “حالة فردية” بواشنطن، فهناك داخل العاصمة الأميركية عشرات الألوف من المشرّدين، كما في مدن أميركية أخرى، وفي عواصم أوروبية عديدة. وهؤلاء المشرّدون يعاني القسم الأكبر منهم من مشكلة الجوع إضافةً إلى محنة التشرّد رغم محاولات جهات عدّة لمساعدتهم ولـتأمين مأوًى لهم وتوفير أطعمة وألبسة لمن أمكن الوصول إليه منهم.
وقد تساءلت تلك الليلة عن هذا التناقض الخطير الذي تعيشه مجتمعات كثيرة في العالم، بين قلّة تملك الكثير وكثرة تملك القليل أو لا تملك شيئاً كحال هذا الفقير الذي صادفته. وكيف أنّ أميركا، التي صرفت ألف مليار دولار على حربيها في العراق وأفغانستان، يعاني الكثيرون فيها من التشرّد وعدم الرعاية الصحية ومن الجوع أو حتى الاضطرار إلى إخلاء المساكن، كما حدث في الفترة الماضية نتيجة العجز عن تسديد قروض المنازل.
تساءلت عمّا فيه العالم الآن عموماً من انحسار للطبقة الوسطى ومن ازدياد مخيف لعدد الفقراء ولقيمة ثروة الأغنياء..
منذ أسابيع قليلة، نشرت المنظمة العالمية للغذاء والزراعة (الفاو) معلومات أشارت فيها إلى أنّ الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة قد دفعت بأكثر من مليار شخص في العالم إلى مستوى حالة الجوع، أي بزيادة تبلغ مائة مليون شخص عن العام 2008، ويعني هذا أنّ هناك جائعاً واحداً من كل ستّة أشخاص في العالم، هذا العالم الذي ينفق على التسلّح سنوياً 1340 ملياراً من الدولارات!!
طبعاً، غالبية الجياع هم من أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، وكذلك هي حروب العالم المعاصر. وكأنّه كُتِب على شعوب الدول النامية والفقيرة أن تجمع بين الابتلاءين: الجوع والخوف معاً!
فالعالم اليوم يدفع ثمن مزيج من العوامل التي تراكمت في العقود الماضية وجعلت الكرة الأرضية موزّعةً في أزماتها السياسية والعسكرية بين “شرق وغرب”، ثمّ في أزماتها الاقتصادية بين “شمال وجنوب” بحيث لم تسلم بقعة على هذه الأرض من آثار ما فعله “الإنسان” المستخلف عليها لرعايتها وإعمارها، حتى القطب الشمالي المتجمّد مهدّد بالذوبان بفعل ما خلّفته “الحضارة الصناعية” من تأثيرات سلبية على المناخ.
وإذا كان مفهوماً ما تخلّفه الحروب والكوارث الطبيعية من حالات تشرّد وجوع وبطالة، فما تفسير هذه الحالات في مجتمعاتٍ لا هي في حروب ولا تعيش مخلّفات كارثة طبيعية إلا أن تكون هذه المجتمعات مفتقرة للعدل الاجتماعي والسياسي وغنية بالفساد والاحتكار وسوء توزيع الثروات الوطنية وهيمنة الجشعين الفاسدين فيها على مقاليد الحكم.
وقد انشغل العالم في العقدين الماضيين بمقولة الديمقراطية السياسية بعدما انهارت تجربة الأنظمة الشيوعية التي كانت تهتمّ بمسألة العدل الاجتماعي فقط وتقف سلباً ضدّ قضايا الدين والقوميات والحرّيات العامّة وصيغ نظام الحكم الديمقراطي.
وهاهو العالم اليوم يعاني أيضاً من تجاهل مسألة العدل الاجتماعي وحقوق النّاس في لقمة العيش والعمل والسكن والضمانات الصحّية والاجتماعية بعدما انشغلت الأمم في صراعات حول قضايا “الدين والقومية والديمقراطية”. وفي العصور الماضية كلّها نجد أيضاً مشكلة انحسار المفاهيم الصحيحة لهذه القضايا الكبرى المعنيّة البشرية جمعاء بها. فالرسالات السماوية كلّها حضّت على العدل بين الناس وعلى رفض الظلم والطغيان والجشع والفساد، وعلى إقرار حقّ السائل والمحروم، بينما تتحوّل المناسبات الدينية الآن إلى “سوق تجاري كبير” وإلى موسم رحلات سياحية!!
والمنطقة العربية ليست بشواذ عمّا يحدث حولها في العالم، فهي جزء من “ساحات الحروب” الماضية والمعاصرة، وهي مبتلية أيضاً بحكومات معظمها هو أفضل مصدر لحالتي الجوع والخوف معاً.
ففي تقرير “تحدّيات التنمية في الدول العربية” الذي أعدّته الجامعة العربية بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي نُشِر مؤخّراً، هناك أرقام مفجعة عن مستوى نسبة الفقر والبطالة في الدول العربية حيث ذكر التقرير أنّ ما نحو 140 مليون عربي يعيشون تحت خطّ الفقر الأعلى، أي حوالي 40 بالمئة من عدد سكان المنطقة العربية.
ووفق هذا التقرير، فإنّ معدّل البطالة بين الشباب في هذه المنطقة هو نحو 25 بالمئة ممّا يجعل من معدّل البطالة بين شبابها الأعلى في العالم كلّه.
ولقد نشرت وسائل الإعلام العربية هذا التقرير في اليوم نفسه الذي نقلت فيه صحف عربية عن مجلة “أرابيان بيزنس” لائحة أسماء أغنى 50 عربياً والذين تجاوزت ثرواتهم في العام 2008 مبلغ 207 مليار دولار.
فهذه صورة قاتمة لما هو قائم في البلاد العربية من ازدياد في معدّل نسبة الفقر والبطالة، مقابل زيادة ثروات لأفراد ينتمون إلى دول عربية مختلفة.
طبعاً الفقر والبطالة ليسا من من مسؤولية هؤلاء الأفراد العرب، بل هي أولاً وأخيراً مسؤولية الحكومات المؤتمنة على ثروات أوطانها ومقدّرات شعوبها وعن إدارة الإنتاج في مجتمعاتها.
هذه الحكومات هي التي تمارس الرشوة والفساد وسرقة المال العام، وهي التي تستحق المساءلة والمحاسبة.
وهنا أهمّية العدل السياسي من أجل تحقيق العدل الاجتماعي، وهنا الرابط بين “تذكرة الانتخابات” و”لقمة العيش”، وهنا ضرورة بناء المجتمعات على أساس الفصل بين السلطات فيها تحقيقاً لأهداف الرقابة والمحاسبة وحقّ اختيار الحاكمين باسم الناس.
هنا أيضاً أهمّية التكامل المنشود بين الدول العربية حيث متطلّبات التنمية والتقدّم تفرض حدوث التكامل الاقتصادي بين أقطار الأمّة العربية.
إنّ “الديمقراطية والاتحاد” هما الآن في أوروبا وجهان لمشروع أوروبا الواحدة مستقبلاً. أوروبا التي عانت في القرن الماضي من حربين عالميتين، ومن تقسيم سياسي وأمني بين القطبين الأميركي والروسي لأكثر من نصف قرن، أوروبا التي هي قوميات ولغات وثقافات وطوائف مختلفة، تبني الآن حلم “الاتحاد الأوروبي”، وتفتح حدودها وأسواقها لكل شعوب دول الاتحاد، وترى في ذلك ضمانة استمرار استقرارها السياسي والأمني والاجتماعي.
فعسى أن يكون التقرير المقبل لجامعة الدول العربية هو عن كيفيّة تحقيق “الاتحاد الديمقراطي العربي” لمعالجة حالات الفقر والبطالة، إضافةً إلى مواجهة مخاطر التقسيم والتشرذم والتدخّل الأجنبي.
Leave a Reply