تجوز المقارنة، مع الفرق الكبير بين الرجلين. بين غسان تويني الآتي من عالم الصحافة وأمين الجميّل المقيم في بيت سياسي، فكلاهما قام بالتوريث مرتين، الأول ورّث الابن والحفيدة مقعده في مجلس النواب، والثاني ورّث الابن والابن مقعدا في مجلس النواب أيضاً، بكثير من الصعوبة.
كلاهما اغتيل ابنه، في ظروف حرجة وظالمة، ظروف أكبر من الجميع، لأنها من صنع الجميع، لكن الفرق بين الرجلين، ليس الخلفية العائلية وما يتصل بها من حيثيات سياسية، بل الفرق الحاسم في ردة الفعل على تلقي أنباء الاغتيالين. تويني.. بدا مؤمناً مسيحياً حتى النخاع، وهو يمسح دموعه ويسامح القتلة، والجميّل مايزال يصرّ حتى الآن.. على وضع صورة ابنه المقتول، لاستعمالها في إستقطاب العواطف والميول والنعرات، وبث الرسائل.
وبالطبع ليس مطلوباً من الجميّل أن يتنازل أو ينسى دماء ابنه الذي قضى في ريعان العمر، لكن المفارقة أن يسامح المؤمن تويني القتلة، وأن يستعمل الجميّل دماء ابنه، الرئيس السابق الذي يليق به أن يتعالى عن كل شيء، هو الآتي من مؤسسة عائلية سياسية ذات توجهات مسيحية خالصة. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على التداخل بين المؤسسات وامحّاء هوياتها وبطلان ادعاءاتها وزيف شعاراتها. مؤسسات دينية تلعب في السياسية، ومؤسسات سياسية تستعمل الدين، شيء إن دلً على شيء، فإنما يدل على اختلاط الحابل بالنابل، واختلاط السائس بالراعي، والعرفاني بالمجوني، وكل شيء بكل شيء. ليست نيويورك هي بابل العالم الحديث، على تعدد الاثنيات والألسنيات والثقافات والمرجعيات، ليست نيويورك بل لبنان. والمفجع.. أن لبنان بلد التعدديات والطوائف ذات اللغة المشتركة والتاريخ المشترك والمصير المشترك، يبدو على فوهة بركان دائم الانفجار (في البحر)، على عكس نيويورك بتعددياتها الواضحة، لكن المنسجمة، والمتآلفة، مع الكثير من الاختراقات والمظالم الاجتماعية والانسانية. لبنان صاعق القنبلة الذي تم الاتفاق على إبطال مفعوله بالرطوبة والأظلمة!..
وأمين الجميّل.. تجوز مقارنته مع دوري شمعون. كلاهما من بيت سياسي عريق: بيت الجميّل.. الذي أعطى لبنان رئيسيْ جمهورية، وبيت الرئيس كميل شمعون الذي عجز عن تحقيق الحلم الرئاسي لأحد نجليه.
ما حققه أمين الجميل، رئيس لبنان السابق، بإيصال ولديه إلى المجلس النيابي، يساوي في القيمة وفي المعنى السياسي ما يحققه دوري شمعون.. أي أكثر الممكن بما لا يتناسب مع التاريخ العائلي (على الأقل)، ومؤلمة هزيمة بيت الجميل أمام مرشح ميشال عون في المتن. إشارة..كان يمكن لها أن تحمل معنى تاريخياً يفيد بعمق التحولات في للبنان، لكن المشكلة أن لبنان بلد قديم، رغم كل مظاهر الحداثة، لبنان بحكة ظفر واحدة تظهر انه ليس أكثر من مجموعة قبائل متناحرة على الماء والكلأ، وفي مواسم الخير قبائل تتقاتل على قصائد متعارضة، كل ينسب فيها لنفسه المجد والرفعة والبطولة والشهامة، وفي آخر المشوار.. لبنان اللبنانيين الذين يستمتعون بلقبه المثير: باريس الشرق، هو لبنان.. القبائل التي تتقاتل على الماء والكلأ والفخر والنسب والهجاء، ثم يتصالحون وهم يرتدون البزات الرسمية وربطات العنق الأنيقة.. يتصالحون على الطريقة البدوية، بتبويس الشوارب!
وأمين الجميّل.. ليس سياسياً فريداً، أو مجلياً، أو رقماً صعباً، لأنه لم يكن يوماً احتمالاً سياسياً، بل كان على الدوام.. الحل الأخير. صيغة.. ليس بالإمكان أبدع مما كان!
وحزب الكتائب.. هو أقوى حزب في تاريخ لبنان، بالمعنى السياسي، لأنه أنتج كل ذلك الكم الهائل من السياسيين، ومن بينهم رئيسا الجمهورية الشقيقان بشير وأمين، وسمير جعجع، وإيلي حبيقة، وميشال سماحة، وكريم بقرادوني وغيرهم، حزب قوي يصنع السياسيين على عكس الأحزاب السياسية الأخرى التي يصنعها السياسيون، ثم تتضعضع برحيلهم.
ولكن بدون شك، فهذا الحزب يتجه إلى الخور والضعف، ويا لسوء الحظ بقيادة أمين الجميل هذه المرة، الذي ورث ابنه الثاني مقعداً في المجلس النيابي، تحت المقولة ذاتها التي اختبرها الأب: صيغة الحل الأخير، صيغة.. ليس بالإمكان أبدع مما كان!
إعادة إنتاج الضعف.. تكاد تكون إحدى أهم المزايا التي يتقنها أمين الجميل، وهي بلا شك ستجر “الكتائب” إلى الكارثة، وحتى الآن.. فإن سامي الجميل ابن حزب الكتائب في المجلس النيابي، ليس أكثر من شخص سريع الغضب والملل والتذمر.
كان على الجميّل أن يكفً عن استعمال صور ابنه الذي اغتيل، سواء بوضعها على صدره، أو بالإصرار على تواجدها خلفه في كل مقابلاته الصحفية، على الأقل من باب..
قول الشاعر:
وتجلّدي للشامتين أريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضعُ
Leave a Reply