ليس هناك شك بنوايا سمير جعجع المبيتة تجاه المقاومة وما يتمناه من هزيمة لا يقوم لها من بعدها قائمة، فكرهه لفكرة المقاومة سمة ملازمة له وظاهرة في كل خطابه السياسي منذ زمن الحرب الأهلية مرورا بمرحلة اتفاق الطائف وما شابها من هدوء سياسي مصطنع كسره غازي كنعان بزج جعجع في السجن استباقا لخطوات تصعيدية كان ينوي “الحكيم” القيام بها، ولكن حاسة الشم عند كنعان لم تحجبها زيارة جعجع إلى القرداحة معزيا بموت “ولي العهد السوري” باسل الأسد بحادث سير عام 1994.
وكان جعجع قد زار قبل ذلك الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس بيل كلينتون وقابل كبار المسؤولين الأميركيين من غير أن تثار الضجة حول الزيارة وعما دار في أروقة الإدارة الأميركية.
في هفوة لأحد المسؤولين في القوات اللبنانية الذي كان يمارس هوايته في التعليم وتنشئة الأجيال الصاعدة في مدرسة “اليرزة هاي سكول” المقابلة لوزارة الدفاع، استُدرج الأستاذ المسؤول، من حيث لا يدري، عندما انحرف المسار العلمي للجغرافيا الطبيعية وتحول الى المسار الجيوسياسي على خلفيات متعددة منها وأولها الاختلاف مع الأستاذ على تسمية اسرائيل أو فلسطين المحتلة، وعلى تسمية الانتداب الفرنسي بالاحتلال الفرنسي، وعلى نقاط أخرى تتعلق بالثقافة والتاريخ والأرض والانتماء، مما استدعى تعمقا في الشرح السياسي لوجهة نظر الأستاذ “القواتي” وصولا إلى اللحظة السياسية ودور الحزب الذي ينتمي إليه بدون تورية أو تقية. فكان تمرير الحصة الدراسية بأقل الأكلاف المترتبة علينا للحصة التالية بشكل واجبات وفروض هو همنا الأساسي، إضافة إلى شغفنا باستفزاز من نعتبره مغايرا لنا في الهوية والانتماء للوقوف على آرائه وسبر أغواره. تشعب الحديث ووصل النقاش إلى ذروته وطرحت الاسئلة: ماذا حققت القوات اللبنانية وأين هي إنجازاتها؟ وبطريقة فظة طرح بعضنا فشل القوات وفشل سمير جعجع وعزلته. وقع الأستاذ بشرك التلاميذ وسرب ما قاله جعجع في أحد الاجتماعات المركزية لكوادر القوات اللبنانية والذي حضره الأستاذ بعد عودة جعجع من زيارته الأميركية. نقل الأستاذ عن جعجع ما سمعه الأخير في أميركا من “أن الإدارة الأميركية لن تتخلى عن القوات اللبنانية، أمامكم عمل كبير عليكم القيام به، يجب أن تستعدوا للمرحلة المقبلة وهناك تغيير كبير في الأوضاع عليكم أن تكونوا أنتم بوصلته”. أضاف الأستاذ قال لنا الحكيم “باختصار نحن سننام لبعض الوقت بانتظار الإشارة”. شعر الاستاذ بأنه باح بما لا يجب قوله، ولكنه ربما وجد مبرره بالنظر إلى طلابه على أنهم فتية صغار يرتدون الفاخر من الملابس، زحفوا من أحضان الضاحية الجنوبية هربا من “تخلف مدارسها الرجعية” ولجأوا إلى رحاب التحضر والمدنية والإنسانية. ولم يكن يدري ذاك الأستاذ أن هؤلاء الفتية وهم عشرة، وبعضهم يطالع كتبا فلسفية وفكرية تفوق مدى استيعابه وتصوره، قد تقصدوا ترك مدارسهم في الضاحية وانتقلوا الى الشق الآخر من وطنهم الذي كانت تمنعه عنهم المتاريس وخطوط التماس، في محاولة لاكتشاف الآخر وتحديدا المسيحي الذي كان بمثابة فزاعة لهم والعكس صحيح طيلة فترة الحرب الأهلية، وقليل من أولئك الفتية العشرة من كان قد قابل مسيحيا ولو مصادفة، ولم يكن يدري ذاك الأستاذ بأن أؤلئك الطلبة خاضوا معارك مع أهاليهم وبعضهم ترك المنزل من أجل الالتحاق بمدرسته الجديدة. فكانت التجربة فريدة من نوعها بالنسبة إلى فتية لم يتجاوزا السن القانونية، ولكنهم تجاوزوا كل القيود المجتمعاتية عندما اخترقوا مجتمعا كان محرما عليهم ومباشرة بعد أن وضعت الحرب اللبنانية أوزارها في مقتبل التسعينات قبل أن يتحرك أمراء الحرب والسياسة في لبنان لعقد المصالحات وتدعيم سبل العيش المشترك وما الى ذلك من الشعارات الكاذبة.
في المدرسة علت الصيحة وبدا الانزعاج من طلاب القوات الذين كنا نخوض معهم في جدالات عقيمة تنقصها الخبرة والمعلومات من الطرفين، وكنا نجهد انفسنا ونستجمع كل ما أوتينا من معلومات وحقائق لنثبت بأن اسرائيل هي كيان غاصب وغير شرعي وهي دولة معتدية على لبنان وتهدد أمنه واستقراره، وأن الوجود السوري في لبنان هو ليس احتلالا، ولا يمكن مقارنته بالاحتلال الاسرائيلي. كان الطلاب العونيون أقل حدة في النقاش وأكثر تهذيبا، فكان يمكننا مثلا الاختلاف معهم في النقاش ولكن كان بامكاننا الخروج سويا، أو الهروب من ملعب المدرسة المفتوح على سفح جبل اخضر في منطقة الجمهور. كنا نختلف على كون سوريا “محتلة” أو “موجودة”، ولكننا كنا نتفق معهم بأن الممارسات السورية لا تطاق وهي مدانة. وكانوا يتفقون معنا بأن اسرائيل دولة معتدية ومحتلة. وكانوا يعزونا عندما يسقط شهداء جراء القصف الاسرائيلي على قرى الجنوب، وكنا نرى الشماتة في وجوه وعيون القواتيين عندما تفشل عملية للمقاومة ويسقط لها شهداء. لم يكن العونيون يخفون إعجابهم بـ”حزب الله” وبأمينه العام السيد عباس الموسوي وكانوا دوما يرددون كلام الجنرال عون عن الشعب الإيراني العظيم الذي أسقط الشاه وعن مقاومة “حزب الله”، ويذكرون بلهفة التظاهرة التي نظموها قبيل سقوط بعبدا في “13 تشرين” على خطوط التماس المواجهة لمنطقة صفير التي كان “حزب الله” يسيطر عليها في ذلك الحين طلبا للمساعدة وفتح الخطوط. كانت وجوههم حزينة عندما اغتالت اسرائيل أمين عام “حزب الله” السيد عباس الموسوي عام 1992 الذي حسب تعبيرهم كان يدافع عن لبنان كما دافع الجنرال عون عن لبنان. في المقابل لا يمكن نسيان ذلك المشهد المجوني الجنوني الغارق في بحر من الحقد والكراهية عندما عقد طلاب القوات اللبنانية حلقات الرقص والدبكة عندما وصل نبأ اغتيال عباس الموسوي.
تنفس “القواتيون” الصعداء وشنوا “حرب الإلغاء” متوجهين الى الإدارة بالشكوى من “الطلاب الغرباء” واتهامهم بأنهم يعكرون صفو الدرس ويشوشون على الأساتذة ويخلقون المشاكل ويهينون المقدسات المسيحية، وكادت أن تنجح تلك الحملة لولا اصطدمت بالعامل الاقتصادي الذي وضع الإدارة المتعاطفة مع القواتيين أمام طرد عشرة آلاف دولار من خزينتها. فاكتفت بالتوبيخ وأصدرت قرارا “لم ينفذ” بمنع النقاشات السياسية والدينية. وبعد انتهاء العام الدراسي والانتقال الى الحياة الجامعية، وفي تطور دراماتيكي، تفجرت كنيسة “سيدة النجاة” وسالت دماء الأبرياء في لعبة الكبار والصغار، خرج سمير جعجع مطالبا بالأمن الذاتي ورافعاً شعار الفيدرالية المسيحية، قلت في نفسي “صدق الاستاذ” فقد حانت الساعة للتحرك “القواتي”، لقد صدق الوعد الأميركي.. ولكن الوعد الكنعاني كان أسرع، فما هي أيام حتى حوصر سمير جعجع في مقره في غدراس، ثم انعقد مجلس الوزراء برئاسة الرئيس الراحل رفيق الحريري وأصدر ثلاثة قرارات لا غير في غاية الحساسية والأهمية: حل حزب القوات اللبنانية، اعتقال سمير جعجع وإحالته على القضاء العسكري، منع بث الأخبار السياسية في كل وسائل الإعلام ما عدا التلفزيون الرسمي والسماح لقناة “المنار” فقط ببث أخبار المقاومة.
لم أخف سروري في تلك الحقبة الجامعية من حياتي، وتمنيت لو أن الزمن يعود بي سنة إلى الوراء لأرى وجوه زملائي وأساتذتي القواتيين التي تخيلتها مكفهرة في تمنٍ لا يخلو من التشفي والشماتة يبررهما قول: “والبادئ أظلم”.
بعد توقيف جعجع في سجن وزارة الدفاع بفترة وجيزة، وخلال جولة “فضولية” مع بعض الأصدقاء في منطقة سن الفيل ومن بينهم النائب الحالي عقاب صقر الذي كان يقود السيارة، توقف فجأة بعفوية سريعة لشخص يؤشر له على جنب الطريق طالبا إيصاله الى محيط جسر سن الفيل. صعد الشاب وجلس الى جنبي في المقعد الخلفي، فتلقفته مباشرة بتغيير لهجة كلامي والايحاء بأني من أبناء جلدته، وتطرقت بدون مقدمات الى حدث الساعة واليوم والأسبوع اعتقال سمير جعجع وتوجيه الشتائم الى سوريا والدولة. فنظر الشاب الي وقال “لا تحزن ولا تخاف فإن اسرائيل لن تتركنا وهي الآن قد أنزلت قوات كوموندس في فاريا وعيون السيمان من أجل إنقاذ الحكيم، لقد سمعت ذلك من قريبي المسؤول في القوات اللبنانية فلا يمكن لإسرائيل أن تتخلى عن من خدمها طيلة هذه السنين، لا بد لإسرائيل أن تنقذ الحكيم، فأنا أكيد بأنها لن تتركه”. نزل الشاب عند محطته، فسارع عقاب بالقول بأنه “مخبول.. مضروب على رأسه” فقلت له “بل هي ثقافة القوات التي تربّى عليها”.
وهنا بيت القصيد “الثقافة القواتية” والتربية السياسية التي يتلقوها منذ نعومة أظافرهم وحتى اشتداد عودهم، فكل “قواتي” يعتبر نفسه ضمنيا حليفا موضوعيا لإسرائيل وعدوا فعليا لسوريا وحلفائها. ولا يكفي أن تقول النائب ستريدا جعجع لمرة واحدة فقط لا غير بأن اسرائيل عدوة حتى تتغير عقيدة القوات و”حكيمها”. فكلام جعجع الأخير، وإن يكن جديد في شكله، هو قديم في المعنى والمضمون وجريء حتى الوقاحة في التمني والانتظار.. وتهور حتى الانتحار في الحساب، حساب الزمن والتاريخ والجغرافيا.. وأخيرا وليس آخر حساب الشعب..
Leave a Reply