ديترويت – خاص “صدى الوطن”
لطالما اشتهرت مدينة ديترويت، وهي المدينة الـ١١ في عدد السكان في أميركا اليوم، بأنها مرتع للجريمة بكافة أشكالها، من القتل الى الإتجار بالمخدرات والسلاح… وصولا الى الخطف وسرقة السيارات والحرائق المتعمدة وإرهاب عصابات الشوارع. إلا أنه مؤخرا اتخذت دائرة شرطة المدينة عدة إجراءات تنظيمية وميدانية مدفوعة بحزمة مساعدات وشروط فيدرالية مرافقة، أدت، على حد زعم الأرقام الرسمية، الى انخفاض ملحوظ في معدلات الجريمة لاسيما جرائم القتل العمد، إلا أن ذلك لم يمنع عدة جهات حقوقية من التساؤل حيال هذه الإجراءات وقانونيتها وتماشيها مع الدستور الأميركي والحقوق المدنية. لكن ما لا شك فيه ان دائرة الشرطة في المدينة تسعى جاهدة بالتعاون مع وسائل الإعلام الرئيسية في المدينة، ومحافظة وين بشكل عام، على نشر جو من التفاؤل حيال الوضع الأمني، مرده الخطوات الأمنية الجديدة “الفعالة”، رغم ما قيل عن امكانية ارتفاع هائل في مستويات الجريمة مع تدهور الوضع الاقتصادي وارتفاع البطالة.
فقد فردت صحيفة “ديترويت نيوز” الأسبوع الماضي تقريرا مطولا على صفحاتها يبين انخفاض معدلات جرائم القتل في المدينة. وقالت الصحيفة في تقريرها ان شرطة ديترويت أصدرت مطلع العام الجاري احصائية تمهيدية جاء فيها ان عدد جرائم القتل العمد ارتفع قليلا في المدينة السنة الماضية، في مقابل انخفاض حاد في عدد حوادث القتل غير المتعمد في النصف الثاني من العام 2009. وتقول الإحصائية ان ديترويت شهدت العام الماضي 379 حادثة قتل غير متعمدة، قابلها 375 في العام 2008، من هذه الحوادث في العام الماضي 179 في الفترة ما بين تموز (يوليو) الى كانون الأول (ديسمبر) بانخفاض 20 بالمئة، عن نفس الفترة في العام الذي سبقه.
مسؤولون في شرطة المدينة ارجعوا سبب هذا الانخفاض الى الطريقة، التي تحقق الشرطة فيها في مثل هذه الحوادث من القتل، والى زيادة عدد الدوريات في الشوارع، اضافة الى التوسع في استخدام البيانات المدونة في الكمبيوتر لناحية استهداف اماكن ساخنة، وبحسب رئيس هيئة المفوضين في شرطة ديترويت رونالد غريفين، فان هذا يبعث على التفاؤل الحذر، حيث قال “اريد ان يشكل هذا خبرا جيدا، لكنني غير مستعد للقول باننا عالجنا المشاكل في الدائرة حتى هذه اللحظة، مع ان هناك سببا للتفاؤل”.
وتأتي هذه الاخبار من ديترويت لتعزز اتجاها وطنيا سائدا يرى ان معدلات الجرائم العنيفة في كبرى المدن الاميركية اخذة في الانخفاض، بغض النظر عن توقعات بارتفاعها جراء زيادة معدلات البطالة وتقليص اعداد الشرطة، وهما على اية حال لم يترجما على الارض، حسب الأرقام الرسمية، ففي مدينة مثل لوس انجلوس عدد سكانها يتخطى الاربعة ملايين نسمة يمثلون خمسة اضعاف سكان ديترويت، لم تسجل سوى 314 جريمة قتل في العام 2009، في حين انه لم يسجل في مدينة نيويورك وعدد سكانها عشرة اضعاف سكان ديترويت، سوى 466 جريمة قتل في العام الماضي وهو الرقم الاكثر انخفاضا في تاريخها، فقد وصل عدد جرائم القتل فيها في العام الذي سبقه 522.
من جهته، قال قائد شرطة ديترويت وورن ايفانز بأن أمامه طريق طويل قبل ان يسوي جميع المشاكل في دائرته التي طالما عطلتها عن القيام بواجباتها على خير وجه، لكنه اشار الى ان اجهزة تنفيذ القانون في دائرته تسير في الاتجاه الصحيح، وقال، حسب صحيفة “ديترويت نيوز”، “عملنا الكثير في وقت اقصر مما كنت اتوقع”، وكان ايفانز تسلم مهام وظيفته في تموز الماضي بعد ان كان شريف مقاطعة وين، مضيفا “حادثة قتل واحدة تعني لنا الكثير، وندرك اننا لن نوقف هذه الحوادث جميعا، ولكنني اعتقد اننا تخطينا الحاجز الوهمي باننا (شرطة ديترويت) لسنا اذكياء بالقدر الكافي، أو اننا غير اكفاء”.
وفي وقت مبكر من هذا العام، حسب “ديترويت نيوز”، قامت شرطة المدينة بمراجعة اعداد حوادث القتل للعام 2008، وذلك بناء على سجلات طبية في مقاطعة وين، أظهرت ان عدد حوادث القتل في ديترويت هي اكبر من تلك التي تنشرها شرطة المدينة. لكن الارقام المبدئية التي نشرتها الدائرة في هذا الخصوص للعام 2009 كانت متواكبة مع تلك التي نشرها المركز الطبي في مقاطعة وين وهي 390 وان الفرق بينهما 11 جثة، وبررت الصحيف الفارق الضئيل بسبب ما اعتبرته بعض الجهات حوادث قتل مبررة، لا يجب احصاؤها ضمن عمليات القتل المتعمدة.
وبخصوص الوصف الشائن الذي يبدو انه سيظل لاحقا بمدينة ديترويت باعتبارها عاصمة جرائم القتل في اميركا، قال ايفانز انه يشعر بانه ممسك بناصية المعضلة، وقال “اعتقد اننا اذا ما امسكنا “بالرؤوس الكبيرة” في الشوارع، فاننا لن نشهد الكثير من جرائم القتل في مدينتنا”، واضاف “ربما لو تناقص عدد جرائم القتل لشهر او شهرين لاعتبر ذلك عشوائيا، ولكن تناقص الاعداد لستة شهور متوالية، فذلك ليس مجرد حظ او صدفة”.
انخفاض غير مسبوق
بالنظر الى انخفاض عدد حوادث القتل في ديترويت في النصف الثاني من العام 2009، يعتبر ذلك الانخفاض دراماتيكيا في حال المقارنة بالاحصائيات للشطر الاول من العام. فقد شهدت ديترويت في الاعوام من 2005-2008 ارتفاعا في معدل حوادث القتل في الشهور بين تموز وكانون الاول بواقع 20بالمئة، ولو كانت هذه الوتيرة ظلت على حالها، وبالنظر الى اعداد القتلى في النصف الاول من عام 2009، لوصلت حوادث القتل في النصف الثاني من العام نفسه الى 500، لذلك قال خبراء ان هذا الانخفاض في عدد حوادث القتل في المدينة غير مسبوق.
وتعليقا على هذه الإحصائيات قال جون شان وهو استاذ علم الجرئم في كلية “جون جاي” في نيويورك، لـ”ديترويت نيوز” “لنعط القيادة الجديدة في شرطة ديترويت بعضا من الفضل في هذا” وأضاف “ان الادارة السابقة كان ينقصها قيادات فذة وعنصر التحليل، والدليل على ذلك اننا لم نشهد من قبل انخفاضا حادا في عدد حوادث القتل مثل هذا وفي وقت محدود وهذ يدعونا لاجراء دراسة قائمة على التجربة والاختبار لا على النظريات، فأمر كهذا لا يحدث بالصدفة”.
سياسات شرطة ديترويت في مكافحة الجريمة
اعتمدت شرطة ديترويت مؤخرا على الاحصائيات، حيث يعتمد ضباط الشرطة حاليا الاحصائيات لتحديد المواقع الساخنة لمسارح الجريمة فيتم التركيز على مناطق دون أخرى.
وهذا يتيح للقادة ارسال ضباط شرطة الى مناطق يكثر فيها ارتكاب الجرائم، وكان هذا الاسلوب وضع قبل 15 عاما في مدينة نيويورك وهو مستخدم في اماكن مثل مكسيكو سيتي (عاصمة المكسيك)، وكانت ديترويت اهملت هذا الاسلوب منذ عدة سنوات بحسب نائب قائد شرطة المدينة جيمز تولبرت. ويقول قال ايفانز انه سيوظف طاقم بحث على الكمبيوتر لتدعيم اسلوب تمشيط المناطق الساخنة اعتمادا على البيانات الاحصائية.
واعتمدت دائرة شرطة المدينة، انشاء قوة تدخل سريع متنقلة، عمادها 150 شرطيا مشكلة من فرقة مكافحة الشغب، وحدة الانتقال السريع، ووحدات مراقبة السير، ويتم نشر افرادها يوميا على عدة مناطق في المدينة.
ومن الاستراتيجيات الجديدة المتبعة أيضاً، الاستعانة بضباط محليين، حيث قامت الدائرة بتوظيف ضباط من احياء المدينة يتعاونون مع المباحث الفيدرالية اثناء المراحل الاولى من التحقيق فور حدوث جرائم القتل، مما يتيح لهؤلاء معلومات غير متوفرة لضباط المباحث، بحسب ايفانز.
كما تعتمد الشرطة على نشر مزيد من العناصر على الشوارع. ففي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي احال ايفانز مئة ضابط من العمل المكتبي الى العمل الميداني، واستثمر منحة فدرالية لتوظيف 50 شرطيا اخر لهذه المهمة حال تخرجهم من اكاديمية للشرطة في غضون بضعة شهور.
وكذلك تم انشاء قوة ملاحقة من عدة دوائر يطلق عليها “كروسيدز” (صليبيين) مشكلة من شرطة ديترويت، مكتب شريف مقاطعة وين، شرطة ولاية ميشيغن وعدة هيئات فيدرالية، مهمتها “تمشيط” ومراقبة مناطق مستهدفة تكثر فيها الجرائم، ويقوم افراد هذه القوة بالقبض على منتهكي نظام المراقبة (بروبايشن) و”الهاربين من وجه العدالة”، حيث تم في كانون الأول الماضي القبض على 63 من هذه الفئات والاستيلاء على 13 قطعة سلاح في منطقة بجنوب غرب ديترويت.
اعتراضات على الإجراءات الجديدة
ولم تمر الإجراءات التي تُرجع الدراسات تراجع معدل الجريمة اليها دون اي معارضة أو انتقاد، حيث ان استراتيجية ايفانز المشددة افضت الى التجني على حقوق المواطنة، من بين هؤلاء رون سكوت وهو مدير “رابطة ديترويت ضد العنف البوليسي” حيث قال “انهم يستهدفون الناس على اساس عرقي، ويسحبون السلاح من البعض على اساس عنصري”، واضاف “لا يمكنك ايقاف رجل اسود بين 18-35 عاما لمجرد انه اسود، هذا ما يحصل حاليا”، وقال سكوت انه وردته شكاوى من المواطنين في الشهور الماضية اكثر من أي وقت مضى، وقال انه تلقى اتصالات من عديد المواطنين تفيد بان ضباط الشرطة يوقفون الناس على الشارع يمينا وشمالا دون اسباب وانهم يتصرفون كأنهم فوق القانون.
ولا بد الإحاطة بأن المساعدات الفيدرالية المقدمة لدوائر الشرطة في المدن الأميركية تطوع هذه الدوائر وتجعلها أذرعا للسلطات الأمنية الفيدرالية من خلال ربط التمويل المالي بشروط قانونية وتنفيذية، وتتجه معظم المدن الأميركية الى الانصياع للشروط الفيدرالية بسبب العجز المالي الكبير في ميزانياتها جراء الأزمة المالية وارتفاع معدلات المنازل المصادرة الأمر الذي جفف مداخيل المدن من الضرائب التي تعتبر المصدر الرئيسي لتمويل دوائر المدينة كافة.
ومنذ عدة سنوات يتم وضع قوانين تربط الشرطة المحلية أكثر وأكثر بالسلطات الفيدرالية وذلك بسبب “التخوف من الإرهاب” بشكل رئيسي، حيث تقوم دوائر الشرطة في المدن التي تلجأ للتمويل الفيدرالي بإعادة تأهيل عناصر الشرطة وإقامة “برامج تثقيفية وتدريبية” لهم ليكونوا فعالين في التعاون مع السلطات الفيدرالية، الأمر الذي يعتبره البعض خرقا للحياة المدنية الأميركية والدستور الأميركي.
تحسن في معدل اغلاق قضايا القتل
وبالعودة الى الإحصائيات، التي تتباهى فيها دائرة الشرطة وتعتبرها مبرراً يعطى الحق لها في الاستمرار بسياساتها الجديدة، ارتفع معدل اغلاق القضايا المتعلقة بحوادث القتل في دائرة شرطة ديترويت الى 60 بالمئة في النصف الثاني من العام 2009 مقابل 28 بالمئة قبل ذلك، علما بان المعدل الوطني 62 بالمئة، وتعتبر القضية من هذا النوع مغلقة في عرف الشرطة، حال القاء القبض على المتهم وتوجيه تهمة جنائية ضده.
Leave a Reply