تقع الإهانة التي وجهتها وزارة الخارجية الإسرائيلية الى السفير التركي لدى الدولة العبرية أحمد تشليكول في باب الصراع السيكولوجي الذي تمارسه حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل مع الأطراف الدولية والاقليمية التي تقترب مواقفها من المواقف الفلسطينية والعربية في الجهود المبذولة لحل الصراع الفلسطيني والعربي–الإسرائيلي.
وإذ يجهد بعض الاعلام الاسرائيلي في تصوير السلوك الذي اتبعته الدبلوماسية الاسرائيلية مع الحليف التركي اللدود بأنه صراع على مراكز النفوذ والسلطة بين صقور اليمين المتطرف وعلى رأسهم وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان وصقور حزب العمل ممثلين بايهود باراك وزير الدفاع، إلا أن نظرة متأنية في حوافز السلوك الإسرائيلي الإذلالي لسفير دولة اقليمية اسلامية كبرى تنفرد في إقامة علاقة مع الدولة العبرية يفيد بأن الخطوة الإسرائيلية ليست من النوع المرتجل أو غير المحسوب، أقله على المستوى السيكولوجي الذي تخوض اسرائيل في إطاره حرب استرداد الهيبة بعد اخفاقاتها المدوية على الصعيد العسكري في السنوات الأخيرة، وتعرض المستوى العالي من قياداتها إلى “إهانات دبلوماسية” مثلما حصل لتسيبي ليفني مؤخرا مع القضاء البريطاني، الذي حرمها من الهبوط في مطار العاصمة البريطانية خشية اعتقالها بسبب تورطها في ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين في حرب العدوان على غزة العام الماضي.
ولن يحول الاعتذار الاسرائيلي الخجول عن التصرف الوقح لنائب وزير الخارجية داني آيالون تجاه السفير التركي، دون المزيد من تبادل “الرسائل القاسية” بين مسؤولي الدولتين الذين أذهبت حرب غزة آخر علامات الود بينهم، وكان “للغضب التركي الساطع” الذي استعرضه رئيس حكومة العدالة والتنمية التركية رجب طيب أردوغان، أمام رئيس الكيان الصهيوني شمعون بيريز في منتدى دافوس قبل نحو عام، آثاره المستديمة على العلاقة التركية–الإسرائيلية.
ولعل من المفيد هنا التذكير بالدور البارز الذي اضطلعت به حكومة أردوغان في السنوات القليلة الماضية على صعيد الوساطة، السرية بداية، والمعلنة لاحقا، بين اسرائيل وسوريا، وهو الدور الذي شرعت تركيا من خلاله بالإطلالة “الأبوية” على المنطقة بحكم قبولها من جانب العرب المفتقدين لأي مبادرة سياسية أو عسكرية في صراعهم مع الدولة العبرية، وتقبل اسرائيلي، ولو تكتيكي للدور التركي في مرحلة تقطيع الوقت والمناورة في سبيل تكريس حقائق ميدانية، خصوصا، في القدس المحتلة عبر سياسة الطرد المنتظمة لمواطنيها الفلسطينيين وإحلال قطعان المستوطنين مكانهم.
وقد يصح اعتبار أن تركيا أرادت في الآونة الأخيرة ممارسة ضغوط “أخلاقية” على الدولة العبرية ومحاولة فضح ممارساتها الوحشية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، سواء في غزة المحاصرة أو الضفة الغربية المقطعة الأوصال والمعزولة بالجدار، فارتأى التلفزيون الرسمي التركي عرض مسلسل “وادي الذئاب” الذي يصور الهمجية الاسرائيلية ويعريها أمام ملايين الأتراك فضلا عن المواقف الجريئة للقادة الأتراك السياسيين في إدانة السلوك العدواني الاسرائيلي ضد لبنان وغزة، وكانت آخر تجلياتها خلال الزيارة التي قام بها أردوغان وزوجته الى دمشق، بعد حزمة الاتفاقيات الثنائية الاقتصادية والأمنية، وفتح الحدود وإلغاء التأشيرات ثم خلال زيارة رئيس الوزراء اللبناني إلى أنقرة والتي استغل اردوغان منبرها لإدانة الخروقات الاسرائيلية المتمادية للسيادة اللبنانية.
يلاحظ أن حكومة العدالة والتنمية في انقرة تتصرف براحة كبيرة وبعيدا عن أية ضغوط من المؤسسة العسكرية التي طالما وضعت ضوابط للساسة الأتراك وعزلت بهدوء، رؤساء حكومات وجمهورية على مدى عقود.
ولعل هذا بالتحديد ما أثار الهواجس الاسرائيلية، والخشية من أن تتصالح المؤسسة التركية الحاكمة مع الأغلبية الساحقة من مواطنيها الذين يرتبطون مع جيرانهم العرب بروابط الدين التي ربما تغلبت على الاعتبارات القومية وعلى الإرث الاستعماري الذي أثقل به الأتراك على المنطقة العربية طيلة أربعة قرون.
والواقع أن “مسلسل” المواجهات الدبلوماسية-الإسرائيلية هو الوجه الآخر لمسلسل “وادي الذئاب” الذي حرص الأتراك على عرضه على شاشة تلفزيونهم الرسمي، ورأى فيه عتاة اليمين الإسرائيلي معاداة للسامية وتحريضا و”يعرض يهود تركيا إلى الخطر”.
والحال أن حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل، شأنها شأن الحكومات “اليسارية العمالية” لا يروق لها أي دور اقليمي تركي فاعل ومؤثر، وهي إن قبلت بالدور التركي فلإستكمال سياسة اخضاع العرب والفلسطينيين، واستخدام “الوسيط التركي” في استنزاف آخر ما تبقى من الطاقات الدبلوماسية العربية، وإحباطها تمهيدا لفرض “حلول نهائية” تنسجم مع الرؤية الصهيونية لصورة “الشرق الأوسط الكبير” الذي كان قد بشر به عجوز الصهيونية شمعون بيريز قبل أكثر من عشر سنوات والذي يقوم على التزاوج بين الثروات العربية والخبرة اليهودية، على أن لا يتعدى الدور التركي فيه مهمة “السمسار” الذي يقبل فتات الفوائد الاقتصادية والنفطية.
غير أن الاحباط التركي من الرفض الأوروبي لانضمام دولة أتاتورك العلمانية الى الاتحاد الأوروبي والشعور بجرح الكرامة القومية جراء هذا الرفض، فضلا عن التشجيع الأميركي الى التوجه شرقا ومحاولة ملء الفراغ العربي وقيادة كياناته وأنظمته السياسية البائسة، في آخر مراحل الصراع مع اسرائيل الذي بات يقتصر على حركات مقاومة وممانعة، وأخرى اتخذت الإرهاب سبيلا لاستكمال صراعها مع “الغرب الصليبي” كما تنظيم “القاعدة”… هذا الاحباط التركي، أفرز رغبة جامحة في لعب دور اقليمي رائد، مع توجه أميركي إلى الإنكفاء عن المنطقة والتفرغ لمشاكل الداخل المالية والاقتصادية ولمواجهة التهديدات الأمنية، مما منح فرصة لحزب العدالة بقيادة الثنائي غول-أردوغان لاستعادة نفوذ قديم والقيام بدور الوكيل المباشر “للتفليسة السياسة الأميركية” في المنطقة.
هذا الدور التركي أزعج الإسرائيليين الذين يخططون ليل نهار، لتصويب رصاصة الرحمة الى الرأس العربي المترنح ولفرض احتلالهم الاقتصادي والسياسي لبلدان المنطقة بديلا عن الاحتلال العسكري المباشر الذي لم يعد ليهود الكيان العبري طاقة على دفع أثمانه البشرية. ليس سرا أن الأتراك هم الأكثر خبرة بالنوايا والخطط الإسرائيلية الموضوعة للسيطرة على المنطقة العربية. والأتراك يدركون تماما أنهم باتوا حاجة عربية طارئة لتجنب الوقوع فريسة سهلة بين براثن القوة الاسرائيلية الغاشمة بعدما نجحت في شق الصفوف العربية واسقاط أكبر دولة عربية من دائرة الصراع، وبعدما نجحت الى حد بعيد في استدراج القضية الفلسطينية الى “فخ العودة” عبر اتفاقات هزيلة لم تحفظ لهذه القضية أدنى حقوقها.
وها هي إسرائيل اليوم تتفرج على انقسام السلطة الفلسطينية الى سلطتين متناحرتين، بعدما أخلت قطاع غزة وحولته الى سجن كبير مسور بالجدران الفولاذية. وبعدما أفرغت “السلطة الوطنية الفلسطينية” في رام الله من أي محتوى “دولتي” عبر سياسة سحب الأرض من تحت أقدامها والتهويد التدريجي للقدس الشرقية المحتلة وبوتيرة أكثر تسارعا في الاشهر الأخيرة.
وهل يجب التذكير بـ”القضايا” العربية النازفة في العراق المحتل واليمن المهدد بالتفكك ولبنان الموضوع في العناية الفائقة السورية السعودية؟
ربما كانت هذه الحقائق المرة مجال بحث في القمة الأخيرة بين العاهل السعودي والرئيس السوري، وربما تبادل هذان الزعيمان العربيان المخاوف من النوايا الاسرائيلية الشريرة، التي يشجعها ارتباك الادارة الأميركية وتخبطها وعجزها عن التحكم بالسلوك الاسرائيلي ومغامراته الخطيرة المحتملة في لبنان وغزة وايران، وقد لا يكون طيف أردوغان بعيدا عن أجواء هذه القمة التي لم تصدق التوقعات بانضمام الرئيس المصري اليها، لأن استعادة النصاب الى المحور الثلاثي العربي لاتزال متعذرة بسبب حدة الافتراق السوري المصري التي يعمل السعوديون على تدويرها.
غير أن استعادة هذا المحور بارشاد تركي أعلى يبقى احتمالا واردا بقوة.. وينتظر على الأرجح نتائج عرض القوة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وايران من جهة أخرى ليبنى على الأمر الإقليمي مقتضاه.
تبدو المنطقة العربية والشرق أوسطية على شفا تطورات بالغة الدقة والخطورة، وحبس الأنفاس قد لا يطول قبل أن تشهد أحداث لا تخطر على بال الكثيرين ويشيب لهولها الولدان!
Leave a Reply