بيروت –
في كل مرة يطرح موضوع التعيينات على مختلف مستوياتها في مؤسسات الدولة، لا سيما في الفئة الاولى منها، تقع مشكلة في البلد، تتعلق بتوزيع الحصص على من هم في السلطة، اضافة الى طائفية ومذهبية الوظائف، التي لم يتحدث عنها الدستور، سوى اشارته الى ضرورة الحفاظ على المناصفة، دون ان تكون الوظائف محصورة او محتكرة لهذه الطائفة او تلك، مما فرض طرح المداورة احياناً في وظائف الفئة الاولى، وحصل ان تم ذلك، تحت عنوان عدم تكريس العُرف المعمول به في توزيع الوظائف، وكان ابرز ما حصل في عهد الرئيس اميل لحود، اذ عيّن شيعيا هو اللواء جميل السيد في مركز المدير العام للأمن العام، وهو موقع ماروني، والامر نفسه فعله في قيادة الحرس الجمهوري، فأتى بالعقيد مصطفى حمدان وهو سني، قائداً للحرس، الذي كان يعين من الضباط الموارنة خصوصاً والمسيحيين عموماً، دون ان يتجاوز المناصفة في توزيع الوظائف، فحصلت الطائفة الكاثوليكية على منصب المدير العام لامن الدولة، الذي كان يشغله موظفاً شيعياً.
فالتعيينات في لبنان، تخضع تاريخياً للتوزيع الطائفي، لان النظام السياسي طائفي، ويعتمد الطائفية السياسية، في توزيع السلطات دون ان ينص عليه الدستور، بحيث اصبح عرفاً اعتمد منذ الاستقلال في العام 1943، ان تكون رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة مجلس النواب للشيعة، ورئاسة الحكومة للسنة، وتحت هذا التصنيف غير الدستوري، والذي بات أقوى دستورياً، توزعت ايضاً الوظائف وبشكل نسبي على الطوائف.
وسعى اتفاق الطائف لتحرير لبنان من النظام الطائفي، ورسم لذلك خارطة طريق، ووضع بنوداً اصلاحية، توصل الى الغاء طائفية الوظيفة، والاعتماد على الكفاءة، من خلال المباريات التي يجريها مجلس الخدمة المدنية، لكن لم يعمل بهذا البند، وتم تجاوزه في اكثر من مكان وظيفي، مما يشير الى ان موضوع تجاوز الطائفية في لبنان، يتعثر بسبب المصالح السياسية الفئوية والطائفية.
كما لا توجد آلية للتعيينات في وظائف الفئة الاولى، سوى ما نص عليه الدستور، بان هذا الموضوع من اختصاص مجلس الوزراء، الذي يأخذ قراره بالثلثين، على ان يضع الوزير المختص رأيه ومطالعته في موضوع الشخص المعين، لكن في كثير من الاحيان، لا يؤخذ برأي الوزير ويتم تجاوزه، اذا ما حصل توافق بين الرؤساء الثلاثة، او بين زعماء الطوائف، كما كان يحصل في العهود السابقة ما بعد اتفاق الطائف، اذ كانت “الترويكا” الرئاسية التي اشتهرت في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي، تفرض التعيينات على مجلس الوزراء، وتمر به حتى لو اعترض وزير او أكثر، كما حصل مع الوزير المرحوم حسن عز الدين، الذي رفض التوقيع على مرسوم تعيين علي زراقط مديراً عاماً للتعليم المهني والتقني، لانه لم يؤخذ برأيه، وهو كان على رأس الوزارة، ووضع المرسوم في درج مكتبه لأشهر عدة، رغم تدخلات عديدة معه، الى ان جاء الحل بأن يسافر عز الدين في مهمة خارج لبنان، ويوقع المرسوم الوزير بالوكالة، وهذا ما حصل.
وتقف التعيينات كما في السابق، عند الآلية التي ستعتمد، لا سيما وان هناك من المدراء العامين يؤتى بهم من خارج الملاك الاداري، كما ان بعض المؤسسات والمصالح يعين رؤساء مجالس الإدارة واعضاءها لسنوات محددة، ولا يلحظ أي نص دستوري، او في قانون الموظفين، ما يشير الى الطرق التي تستخدم في التعيينات، سوى المستندات القانونية والعلمية.
وحاولت حكومات سابقة التوصل الى آلية معينة، سواء عبر هيئات الرقابة، التي عليها ان تقدم اسماء من داخل الإدارة لمن يستحق، ان يترفع من الفئة الثانية الى الاولى، وان يوضع ملف لكل موظف مقترح، وقد تقدم وزير التنمية الادارية الوزير جان اوغا سبيان في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة باقتراح عملت به، أن يتم الاعلان في وسائل الاعلام عن الوظائف، ليتقدم اللبنانيون من اصحاب الكفاءة اليها، سواء من داخل الإدارة او خارجها، للاستفادة من طاقات وكفاءات لبنانيين مهاجرين الى الخارج، ويعملون في مؤسسات كانوا وراء نجاحها، وان مثل هذا التدبير يحرر الموظفين من تبعية الولاء السياسي، اذا ما نظرت الحكومة الى ملفاتهم فقط وما تتضمنه من شهادات علمية وخبرة وتقدير وتنويه من المؤسات التي عمل فيها، وقد اعتمدت هذه الطريقة في اختيار الموطفين واستفادت الإدارة من امكاناتهم العلمية والمهنية.
والآلية التي يجري البحث فيها تتوزع بين الاعتماد على الهيئات الرقابية، لتقدم اسماء موظفين من الإدارة، او اللجوء الى ما اتخذته حكومة فؤاد السنيورة من قرار حول التعيينات، او ان تتقدم كل جهة سياسية، باسماء المرشحين من قبلها، وعلى اساس طائفي ومذهبي، ويتم اختيار منهم الموظفين، وهذا ما يطرحه النائب وليد جنبلاط الذي يدعو للحفاظ على المحاصصة مع الكفاءة، ويذهب الرئيس نبيه بري الى المطالبة بتشكيل هيئة قضائية تفرز الاسماء، وتقدم الاكفاء منها، ويطالب العماد ميشال سليمان، بالاعتماد على عناصر كفوءة من الإدارة اولاً، والاطلاع على تقارير هيئات الرقابة حولها، وهو ما يميل له ايضاً وزير التنمية الادارية محمد فنيش الذي يبحث عن الصيغة الافضل للتعيينات الادارية، تأخذ كل الجوانب السياسية الطائفية والكفاءة.
ولا توجد مشكلة في التعيينات في المذاهب الاسلامية، اذ ان الوظائف المحسوبة للسنة، سيسمي مرشحيها رئيس الحكومة سعد الحريري، وقد يمرر موظفاً او اكثر لحلفائه السنة، أي الوزير محمد الصفدي، وربما الرئيس نجيب ميقاتي الذي ابتعد عن “تيار المستقبل” الذي سيحظى بالعدد الوافر من الوظائف، وكذلك داخل الطائفة الشيعية، التي كانت الوظائف من حصة الرئيس بري لا يقاسمه احد عليها، فان “حزب الله” وبعد مشاركته في الحكومة، قرر ان يدخل شريكاً في الإدارة ايضاً، وقد عقد اجتماع بين قيادتي “امل” و”حزب الله”، تم التوافق خلاله، ان يتم توزيع الوظائف بينهما، وان تتقدم الكفاءة والنزاهة في الاختيار، وان الرئيس بري بات يحبذ عدم حصر الوظائف فقط في حركة “امل” بل من خارجها اذا توفرت عناصر كفوءة، كما في تجربة الحكومة.
وفي الوظائف التي تخص الطائفة الدرزية، فان جنبلاط يحصد منذ سنوات كل الحصة، في كل المراكز الادارية والامنية والقضائية، وان موقع محافظ الجنوب كان فقط خارج السيطرة الجنبلاطية، ومن حصة النائب طلال ارسلان، الذي يسعى ان يبقيه له، ويقترح له قريبه، مالك ارسلان بعد احالة العميد المتقاعد مالك عبد الخالق الى التقاعد، وقد يسايره جنبلاط في هذا المركز الاداري دون ان تكون له حصة في مواقع اخرى لا سيما الامنية، وقد يسبب هذا التقاسم الوظيفي، ضجة في صفوف الشباب الدرزي المتعلم والمتحرر من الاقطاعية، اذ لا ملاذ له، الا ان تتم التعيينات من خلال الامتحانات ليصل صاحب الكفاءة العلمية والفائز فيها.
وتبقى عقدة التعيينات في الطوائف المسيحية، بسبب تعدد المرجعيات السياسية فيها، بعكس الطوائف الاسلامية المحصورة مرجعياتها، اذ هناك تنافس للفوز باكبر عدد ممكن من الوظائف، اذ يسعى رئيس “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون ان تكون حصته خمسين بالمئة، وهو ما يمثله نيابياً، على المستوى المسيحي، اضافة الى حجمه الوزاري داخل الحكومة، على ان تتوزع الحصص الباقية على باقي القوى والاحزاب المسيحية، ومنها حصة رئيس الجمهورية الذي يسعى ان يكون له وجود في الادارات، ليتمكن من ان يحقق انجازات فيها.
وما طرحه عون حول حصته سيزيد من تفاقم ازمة التعيينات، لا سيما انه يعمل على استرداد المديرية العامة للامن العام، الى الموارنة ، بعد ان اصبحت في عهدة الشيعة منذ عهد الرئيس لحود، اضافة الى مراكز اخرى، وهو يدخل في موضوع حقوق المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، ليكون المفاوض باسم المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، ليكون المفاوض باسم المسيحيين كما فعل اثناء تشكيل الحكومة، لكنه في الوظائف قد لا يلاقي تأييداً من حلفائه الشيعة، الذين يتمسكون بالمديرية العامة للامن العام، اضافة الى انهم لديهم حليف اخر هو سليمان فرنجية، الذي له مطالب، وهو بحث الموضوع مع الرئيس الحريري، على قاعدة ان تسري المحاصصة عليه، اذ ما اعتمدت، كما ان مسيحيي “14 اذار” يطالبون بحصصهم، وكذلك المسيحيين المنضوين في “تيار المستقبل” وتكتل “لبنان اولاً”، مما يحصر معركة التعيينات داخل المواقع المسيحية.
فالتعيينات وفي ظل النظام الطائفي، لن تمر دون المحاصصة التي يتوزعها زعماء الطوائف والمذاهب، والذين يحتكرون السلطة منذ سنوات، وفي غياب هيئات الرقابة عن المساءلة والمحاسبة، مع استشراء الفساد داخل مؤسسات الدولة، المحمي من قبل القوى السياسية والحزبية الطائفية المهيمنة على الطوائف والمذاهب، من خلال استغلالها لوجودها في السطة، التي تؤمن لها الخدمات والتعيينات في الوظائف، وهذا ما يثبتها مرجعية، اضافة الى استخدام المال السياسي اثناء الانتخابات النيابية او قبلها، للتحكم بنتائجها، وتأمين استمراريتها في السلطة، التي لها مفهوم واحد في لبنان، وهو الاستفادة منها في تحقيق مكاسب، مادية ومعنوية.
فلبنان الاداري والامني والدبلوماسي والقضائي، محكوم بالطائفية، وان العبور منها، هو بتطبيق البند الدستوري الذي ينص على تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية، التي تأخرت عشرين عاماً، ومنها يتم الانطلاق نحو وضع برنامج مرحلي، لتجاوز حالة الطائفية، فلبنان الذي كان يعيش طائفية سياسية، بات الان تحت سقف المذهبية السياسية، بعد ان بدأ يبرز الصراع السني–الشيعي، ودخول الشيعة على خط المشاركة في السلطة، وعلى اعتماد الديمقراطية التوافقية، وعلى الثلث الضامن، وما يطرح من مثالثة في السلطة، كل ذلك يؤشر الى ان لبنان، بات مضطراً الى الخروج من الواقع الطائفي والمذهبي، وهو ما اتفق عليه اللبنانيون في الطائف، فاذا لم يعمل بتطبيق الاتفاق، وفيه ابرز واهم بند اصلاحي ، هو الغاء الطائفية، الذي اذا لم يبدأ العمل به، قد ينسف عدم تطبيقه كل البنود الاخرى.
Leave a Reply