في الثالث عشر من شهر كانون الثاني (يناير) الجاري، أدلى القس المسيحي الإنجيلي بات روبرتسون بدلوه في كارثة الزلزال المروعة التي ضربت هايتي يوم الثلاثاء الماضي، عبر لقاء تلفزيوني أجري معه. وفي سياق تعليقه لجمهور المشاهدين حول عدد من الأحداث المأساوية التي ضربت الهايتيين، قال القس روبرتسون: تعلمون أن شيئاً ما كان قد حدث للهايتيين، ربما لا يرغب الكثيرون في الحديث عنه: فقد كان شعب هذا البلد تحت نير الاستعمار الفرنسي. وفي سبيل التحرر من أسره عقدوا صفقة مع الشيطان، تنص على عبادتهم له، مقابل تحرير بلادهم من قبضة الهيمنة الفرنسية عليها. وقد أبدى الشيطان موافقته على تلك الصفقة. ومن يومها حلت اللعنة بالهايتيين.
ورغم غرابة هذا التفسير لما حدث مؤخراً في هايتي، فإن هناك الكثيرين ممن سخروا منه وعدوه مجرد ترهات صادرة عن أحد رجال الدين المتزمتين التقليديين لا أكثر. والحقيقة أن لروبرتسون تقليداً طويلاً في تقديم هذه التأويلات الغريبة للأحداث العالمية. منها مثلا أن انغماس مدينة نيويورك في الرذيلة هو الذي جلب عليها هجمات “11 سبتمبر” الإرهابية، وأن الرذيلة نفسها هي التي تفسر إعصار كاترينا الذي عصف بمدينة نيو أورليانز. أما حالة الموت السريري التي استمر عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شارون، فيردها روبرتسون إلى لعنة انسحابه من قطاع غزة، متخلياً بذلك عن “جزء عزيز من الهبة الإلهية التي وهبها الرب للشعب اليهودي”!
وكنت قد تابعت بكثير من الاهتمام آراء وتعليقات هذا القس بصفتي دارساً للأديان. فقد تحولت تأويلاته القائمة على النبوءات الألفية المسبقة، إلى قوة سياسية كبيرة، لاسيما في أوساط الحزب الجمهوري. ويعتقد المؤمنون بهذا النهج التأويلي أن عصرنا الحالي هو عبارة عن استعادة طبق الأصل لشريط الأحداث التي حكى عنها كتاب العهد القديم. كما يرى هؤلاء أن ذات الأحداث التي أدت إلى “صلب” المسيح عليه السلام، وإلى هدم “الهيكل” في مدينة القدس، تنعكس اليوم في سلسلة من الأحداث التي سوف تؤدي إلى عودة المسيح ودمار العالم. وربما يفسر هذا ظهور روبرتسون عبر شاشات التلفزيون كلما اندلعت حرب في الشرق الأوسط. وفي كل مرة يتنبأ هذا القس المتطرف بدنو نهاية العالم.
وبالنظر إلى اللاهوت الديني الذي يبشر به، يعتبر روبرتسون من مؤيدي إسرائيل المتطرفين، وفي المقابل -وللأسباب نفسها- فهو عدو لدود للعرب والمسلمين. وقد دفعه هذا التكوين إلى إطلاق مزيد من التعليقات الغريبة مثل:
“إن لم نكف عن تسترنا على حقيقة الإسلام… فسوف يأتي اليوم الذي ندرك فيه أن الإسلام دين للعنف… بل هو نظام سياسي قائم على العنف وعازم على الإطاحة بجميع حكومات العالم ومن ثم فرض هيمنته على العالم بأسره”. ثم يستطرد روبرتسون في مزاعمه عن الإسلام”علينا التعامل مع من يؤمنون به على هذا الأساس وحده، مثلما نتعامل مع أعضاء المنظمات الشيوعية والفاشية”!
غير أن الذي يزعجني ليس هو إلباس روبرتسون لتعليقاته الدالة على كراهية الآخر قناع الحقيقة الدينية المطلقة المنزهة، ولا قوة الرسالة التلفزيونية السياسية التي يوجهها عبر برامجه هذه. إنما تقلقني جداً ازدواجية المعايير التي تطبق على تعليقات هذا القس المتطرف. فلو كان مصدر مثل هذه التعليقات إمام من أي بلد شرق أوسطي، لطالب القادة السياسيون بردعه ومارسوا الضغوط على حكومته لإخراس تعليقاته. وفيما لو كان ذلك الإمام مسلماً أميركياً وتورط في بث تعليقات مثيرة لكراهية الآخر، المسيحي أو اليهودي أو البوذي، لمارس جمهور المشاهدين من الضغوط على القناة التي استقبلته ما يكفي لمنع استضافته، بل منهم من قد يرفع دعاوى قضائية تطالب بتعويضه عما دفعه لمشاهدة ذلك البرنامج الهراء. لكن على عكس هذا تماماً، فمن المشاهدين الأميركيين من بجل روبرتسون، ومنهم من رأى فيه شخصاً مهرجاً لا أكثر. وهذه هي الازدواجية التي يجب علينا وضع حد لها.
يذكر أن إحصاءات الدراسات التي أجريت مؤخراً، تشير إلى تبرع روبرتسون بما يزيد على 550 ألف دولار لحملات مرشحي الحزب الجمهوري في ولاية فرجينيا، بما فيها تبرعه بما يزيد على 100 ألف دولار لحملة انتخاب الحاكم الحالي بوب ماكدونيل. كما تبرع روبرتسون بـ50 ألف دولار لمرشحي الحزب الجمهوري القوميين. وبالمنطق نفسه، ألا يجدر بهؤلاء الساسة الذين تلقوا تبرعاته السخية هذه، شجب تعليقاته المحرضة على كراهية الآخر، واستعادة الأموال التي تسلموها منه، أو ربما حان الوقت لمطالبتهم بإرسال مبالغ مكافئة لضحايا هايتي المنكوبين؟
وفي نهاية الأمر فإن لروبرتسون مطلق الحرية في أن يقول ما يريد، بصرف النظر عن هراء ما يقول، فليست هذه هي المعضلة، لكن من الواجب التصدي لقوة التأثير السياسي لتعليقاته هذه. ويتضمن هذا التصدي مساءلة الساسة الأميركيين الذين يرحبون بدعمه لهم وبمساهمته في تمويل حملاتهم الانتخابية
Leave a Reply