نهضت من فراشها الدافئ. كل ما كانت تراه رحل مع سفر النوم من عينيها، عندها أدركت أنها أمام لحظة تاريخية من حياتها، فإما أن تقبل الزواج من الشاب الذي فرضه عليها أهلها، وإما…
أظلمت الدنيا وباتت تختنق من هذه الحياة العفنة التي يفقد فيها الإنسان حتى.. قراره. أمسكت علبة الكاز المخصصة لإشعال الموقد الذي وقف أمامه أجيال من البشر ينتظرون طعامهم المشوي وسكبته على جسدها لتتحول إلى شهاب يحترق.. ولينتهي هذا العالم المشبع بالقهر والذل والظلم.
اعتاد أهله على تصرفاته بأن يغلق الباب على نفسه كلما ضاقت الدنيا بعينيه، لكنه تأخر كثيراً هذه المرة. طرقوا الباب. دقوا أكثر. لا جواب. كسروا باباً من أبوابه المغلقة حوله فوجدوه قد فتح باباً إلى عالم آخر! وجدوه معلقا بحبل وسط الغرفة.
قال ايميل سيوران: “لا ينتحر إلا المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل، أما الآخرون فلماذا يكون لهم مبرر للموت وهم لا يملكون مبرراً للحياة”.
عندما تعرّف عليها، كانت زميلته في الجامعة. أحبها بطريقة لم تخطر على باله، لم يكن يظن أنه سيعشق فتاة ويهيم فيها بهذه الطريقة. كان يختلف معها ويراضيها ويقول لها ما قال “جميل” لـ”بثينة” ذات يوم:
وأولّ ما قاد المودةَ بيننا
بوادي بغيض يا بثينُ سبابُ
وقلت لها قولاً فجاءت بمثله
لكل كلام يا بثينُ جوابُ
ثم تركته فجأة وتزوجت رجلاً من الخليج، فقال:
يا صاحبي لا الشام يُغنيني ولا بردى
ففي الخليج خضابٌ من دمي فُقدا.
كانت ريما تحب البحر، تحبه بطريقة طفولية جميلة، وعادة ما كنا نجلس على الكورنيش الجنوبي في مدينة اللاذقية. لديها عادة أن تصمت عندما نجلس أمام البحر. تراقب كل موجة تقترب، ثم تحزن كثيراً عندما تراها تتكسر على صخورالشاطئ، ثم تسألني: يا ترى لو علمت تلك الموجة، وهي تشير إلى البحر، بأن نهايتها على هذه الصخرة، ألا تغير رأيها في إكمال طريقها؟!
كنت عندها أجيب ممازحا: ربما كانت الموجة ابنة عم الخنساء وأحبت صخراً يوماً، فتحولت إلى موجة وأرادت أن تُقبّل صخراً وتموت. ألم تسمعي ما قال “قيس” يوما:
أحبُ من الأسماءِ ما شابه أسمها
ووافقهُ أو كانَ منهُ مُدانيا
ثم تكسرت أحلامنا ومضى كل منا إلى غايته..
في قسوة الحياة المادية وتراكضنا وراء لقمة العيش نحن بحاجة للحظة رومانسية حنونة تعيد تذكيرنا بأننا مازلنا بشراً. أحياناً.. لمسة على كتفنا المرهق تزيل غبار التعب، أو حتى مجرد حلم أو أغنية مع لحن وكلمات جميلة تعيد لنا صفاء الرؤيا. صدرت في الآونة الأخيرة أغنية جميلة تحمل في مضمونها قصة مؤلمة عن فتاة توفيت بحادث سير وهي ما تزال غضة وطرية. اسم الأغنية: بيسان، على اسم الطفلة نفسها. عينا بيسان كما الشفق تبعثان فيك شعوراً بأنك أمام عالم رحب ممتد بلانهاية. صورتها تعطيك دفئاً أنثوياً حقيقياً. وعندما تسمع تلك الأغنية تشعر بأن هناك شيئاً فطرياً فطري يطفو من داخلك إلى السطح، تذكرنا بضمةٍ حنونة من أمهاتنا بعد سفر طويل، أو لمسة حنونة من صديقة عندما نكون أمام إحدى الانكسارات التي تدمينا، لكن ما يلفت الانتباه.. ذلك الانتشار الواسع التي حققته هذه الأغنية رغم بساطتها ورغم أنها تفتقد إلى الكثير من الصناعة الاحترافية للأغنية الحديثة، بكل ما تعنيه كلمة “صناعة” من معنى، لكن عندما نفكر بأن هذه الأغنية تستند إلى واقع حقيقي فإن ذلك يعطيها مصداقية تجعلها تحفر بالقلوب مسالك ودروباً وتشعل القلب بنبض حرارة الواقع اليومي.
رحلت بيسان إلى عالم آخر، غامض، لا نعرف ما هو بالضبط. ربما تنظر بيسان إلينا، وتسمع أغنيتها التي ما كانت لو أنها كانت، ولكنها تركت نبضة عذبة في واقع أقل ما يقال عنه (بيسان شو نفع الدني بلاكي).
Leave a Reply