إذا كان الفن التشكيلي الأوروبي قد استطاع –توازياً مع السينما- الاقتراب من الحروب التي اجتاحت أوربا، الحرب العالمية الثانية خصوصاً، في محاولة لرصد الآثار والتصدعات والبشاعات التي خلفتها هذه الحرب على هذه القارة، من حيث الخسائر البشرية والمادية، إضافة إلى معاينة ذلك العطب في البنية الشعورية والوجدانية عند الإنسان الأوربي، ثم تلك التصادمات والتكهربات في الوعي الفردي الذي بدأ بطرح الأسئلة الشائكة والمحرجة حول علاقته بالواقع والمحيط والوعي العام.. فإن لوحة غورنيكا بيكاسو ستظهر كواحدة من أهم الأعمال الفنية وأشهرها، اقتراباً وتمثيلاً، حتى عند المقارنة مع الأعمال السينمائية، مع فهم ذلك الفارق بين طبيعتي السينما والتشكيل..
فيما يخص أميركا، فإن عقد مثل هذه المقارنة سيأتي لصالح السينما بما لا يدع مجالاً للشك، إذ أن الكثير من الأفلام استطاعت التجول في ذلك الجرح المفتوح، الحرب في فيتنام، وتناوشت مع الأعصاب الأكثر حساسية، والأسرار المحجورة. كما تمكنت من التجول في الغرف السرية في النفس الأميركية، وأضاءت تشوهاتها وهشاشتها وعقدها، حتى بحضور ذلك الفارق: الحرب خارج أراضيها، خاصة إذا ما اتفقنا على حساسية تلك الثقافة إزاء قتل المدنيين..
في متحف الفن الحديث بشيكاغو، يحضر ذلك العمل الضخم للفنان الأميركي المشاكس (بل.. والمتهور) كريس بوردن، تحت عنوان: النصب التذكاري الآخر لفيتنام (The Other Vietnam Memorial)، في نهج اعتراضي صارخ على النصب التذكاري، الذي وضعه جان سكراجس، والذي يضم أسماء القتلى الأميركيين في فيتنام، حيث تم حفر جميع أسماء الجنود الأميركيين الذين قتلوا في فيتنام.
في “التذكار الآخر لفيتنام”، يعمد كريس بوردن إلى نقش ثلاثة ملايين اسم على عدد من اللوحات النحاسية الكبيرة، تتصل مع محور شاقولي بحيث يمكن تقليبها وتصفحها. وقد حصل على هذه الأسماء من أربعة كتب (أدلة) تليفون، ثم خلطها عن طريق الكمبيوتر ليحصل على جميع الاحتمالات الممكنة للأسماء الفيتنامية، دون أن ينسى إضافة اللمسة الساخرة (التي بالتأكيد لم يفطن لها الأميركيون) حين وضع قفازات بيضاء لارتدائها فيما لو أراد أحد أن يقوم بالتصفح.
الأكيد في هذا العمل، أن بوردن لا يقدم عملاً إحصائياً، أو توثيقياً. إنه يقدم عملاً فنياً، افتراضياً، والمقولة الأساسية تنطلق وتنقال من خلال العمل ككل، وليس من خلال مفرداته وتفصيلاته، والأسماء المحفورة. فإذا ما علمنا أن عدد الضحايا الحقيقي في تلك الحرب يفوق 3,2 مليون إنسان بين مدني وعسكري، تأكدنا من مدى ابتعاد ذلك العمل عن التوثيق، إذ أن الحاسوب يقوم بإعطاء الاحتمالات لمرة واحدة، وهذا يعني أن كل اسم فيتنامي تواجد لمرة واحدة فقط..
لو أراد كريس بوردن لعمله أن يكون توثيقياً، لفعل ذلك.. فالأمر ممكن من حيث المبدأ. ولا بد أن الفنان يعرف أنه من الممكن أن يحمل عشرات القتلى (وربما مئات) نفس الإسم!. ما أراد بوردن قوله إن الحرب التي أدارها الأميركيون.. لم تكن تحارب البشر فقط، بل كانت تحارب وتدمر اللغة!..
قتل اللغة! إذن كانت حرباً ضد الثقافة والتاريخ والوجود.. وبالتالي فهي حرب إبادة، لم تعد حرباً تمليها الاختناقات السياسية والإرادات العسكرية. إنها حرب.. هبوط الدرجات الأخيرة من السلّم والاقتتال في المستنقع البهيمي، الحيواني..
ترى بماذا يفكر كريس بوردن، وأمثاله من الفنانين الأميركيين، وهو يرون جثث القتلى العراقيين على شاشة التلفزيون؟ وكيف ستنطبع آثار الحرب على العراق في الذهن والوجدان الأميركي عما قليل؟!..
Leave a Reply