ليس التهديد الذي وجهه صقر حكومة اليمين المتطرف في اسرائيل، وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان الى دمشق، الأول الذي تسمعه العاصمة السورية في تصريحات المسؤولين الاسرائيليين الذين صعدوا في الآونة الأخيرة من وتيرة تهديداتهم الموجهة الى حليفي دمشق وطهران حركة حماس الفلسطينية و”حزب الله” اللبناني، وحذروا فيها دمشق من مغبة الاستمرار في دعم هذين التنظيمين اللذين خاضت ضدهما اسرائيل حروبا قاسية ومكلفة.
الجديد في التهديد الأخير الذي أطلقه ليبرمان أنه تضمن هذه المرة تهديدا للنظام السوري ولعائلة الرئيس الأسد بـ”خسارة الحرب والسلطة” هذا التحذير تبع تحذيرا أطلقه الرئيس السوري قبل يوم واحد من أن اسرائيل تدفع الشرق الأوسط باتجاه حرب جديدة، وتحذير أكثر حدة على لسان وزير الخارجية وليد المعلم توجه به مباشرة الى الإسرائيليين “لا تختبروا أيها الإسرائيليون عزيمة سوريا.. تعلمون أن الحرب في هذا الوقت سوف تنقل إلى مدنكم.. عودوا الى رشدكم واسلكوا طريق السلام”.
ثمة شيء جديد في لغة التهديدات المتبادلة بين اسرائيل وسوريا. فالحديث عن “خسارة السلطة” طارئ على التهديدات الإسرائيلية لدمشق، وأفيغدور ليبرمان بدا متوترا الى درجة أفقدته الحد الأدنى المعقول من المنطق السياسي في التعاطي بين الدول، حتى ولو كان العداء هو العلاقة الوحيدة التي تجمع بين دولتين كما هو الحال بين سوريا واسرائيل.
والبعد عن المنطق لم يكن السمة الوحيدة لتصريح ممثل المهاجرين الروس الى الكيان العبري، وصاحب التهديد الشهير بتدمير السد العالي وإغراق القاهرة وتسفير ما تبقى من الفلسطينين في أراضي 48 لتحقيق النقاء العنصري للدولة اليهودية، فليبرمان أبدى قدرا كبيرا من الوقاحة الديبلوماسية عندما أوحى بأن اسرائيل هزمت الأنظمة العربية مرارا لكنها أبقتها في السلطة، مستشهدا بهزيمة 67 التي لم تؤد الى رحيل جمال عبدالناصر، و”خسارة” حرب 73 التي أبقت على نظام الرئيس حافظ الأسد في السلطة أيضا.
أراد ليبرمان أن يحذر نظام الأسد الابن “أن بقاءك وعائلتك في السلطة رهن بارادة اسرائيلية”. لكن ليبرمان لم يخبر مستمعيه عن البديل الذي يسعى إلى “زرعه” على رأس السلطة في دمشق، هل هم “الإخوان المسلمون” الذين أعلنت قياداتهم مرارا عن وقوفها الى جانب الجيش السوري وقيادته السياسية في حال تعرضت سوريا الى غزو وعدوان خارجي؟ وهل يعتقد ليبرمان حقا أن أي نظام سيخلف “نظام عائلة الأسد” سيكون “حليفا” لدولته الغاصبة التي لاتزال تحتل أرضا سورية منذ أكثر من أربعة عقود؟
الأرجح أن ليبرمان يعاني من “صداع سياسي” رفع من حرارة تصريحاته الى حد دفعه الى ارتكاب “الهذيان” ومن المحتمل أيضا أن يأس حكومة اليمين المتطرف التي سدت كل النوافذ أمام امكانية استئناف مفاوضات سلمية مع سوريا، من دفع دمشق الى فك تحالفها مع طهران و”حزب الله” و”حماس” أخرجها عن جادة الصواب الى حد المغامرة بالحديث عن تغيير الأنظمة السياسية في المنطقة، كآخر محاولة لإرهاب نظام الرئيس بشار الأسد، غير متذكرة تلك التجربة الفاشلة التي خاضتها في لبنان العام 1982 وحاولت خلالها زرع نظام “حليف”.
وتبرز في المقابل اللهجة غير المعتادة في اطلاق التهديدات على لسان المسؤولين السوريين إذ بدا أن تصريح الوزير المعلم خارج “المألوف” السياسي السوري والذي لم تعتد عليه الأذن الاسرائيلية. فالمعلم أراد إفهام الاسرائيليين، أولا أن نظام دمشق لا يخشى التهديدات الاسرائيلية المتلاحقة، وثانيا أن أي قرار أرعن تتخذه حكومة نتنياهو باستفزاز سوريا وجرها الى حرب اقليمية شاملة ستكون كلفته باهظة على اسرائيل.
والحال أن تصريح الوزير المعلم يؤشر الى شعور سوري بمخاطر قيام اسرائيل بمغامرة عسكرية غير محسوبة العواقب، ويهدف الى “لجم” لهجة التهديدات الاسرائيلية قبل أن تبلغ نقطة اللاعودة لأن الحرب ليست خيارا سوريا “عودوا الى رشدكم واسلكوا طريق السلام” خاطب المعلم الاسرائيليين.
وإذا كان ثمة اعتقاد قوي لدى مراقبين ومحللين كثر أن التهديدات الاسرائيلية المتكاثرة تندرج في سياق الحرب النفسية التي تشنها الدولة العبرية في محاولاتها الدؤوبة لإقناع العرب بأن هيبة ردعها المسفوحة في حرب تموز ٢٠٠٦ ستعود أقوى وأفعل، إلا أن الركون الى هذه المقولة بالمطلق يحتمل خطأ استراتيجيا قد يكون قائلا. فاسرائيل وفق تقديرات غير قليلة أخرى تبدو مصممة على محاولة حسم أي حرب قادمة بصورة قاطعة تتيح لها فرض رؤيتها لـ”السلام” مع الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والتفرغ لما تراه خطرا محدقا بوجودها قادما من ايران التي لم يخف مسؤولون فيها رغبتهم في “إزالتها عن الخارطة” في أكثر من مناسبة.
وعلى وجه العموم فان أجواء المنطقة تبدو سائرة أكثر من أي وقت مضى نحو حرب يرى كثيرون أنها حتمية لكسر الجمود القائم، وقد يساعد على التسريع في اندلاعها الانكفاء الأميركي نحو الداخل وشعور قادة اسرائيل بأن ادارة الرئيس باراك أوباما قد بدأت بالفعل عملية إعادة تطبيع البيت الأبيض مع السياسات والرؤى الاسرائيلية التي شكلت تاريخيا جوهر السياسة الأميركية في المنطقة منذ نشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين قبل ستة عقود.
نحن في مرحلة الحرب النفسية التي إذا لم تؤد أغراضها لدى طرفي الصراع، فالانتقال الى الميدان لا يعود سوى مسألة وقت.
Leave a Reply