يشيد النقاد حول العالم بالفيلم الأميركي الملحمي “أفاتار”، لمخرجه جيمس كاميرون، من عدة جوانب، فهو الفيلم الأكثر كلفة في تاريخ السينما (400 مليون دولار) حتى الآن، بدءاً من كونه الفيلم الذي سيعد فاتحة حقيقية في تاريخ الصورة السينمائية ثلاثية الأبعاد، حيث تم في هذا الفيلم لأول مرة استخدام تقنيات متطورة جداً، سواء لناحية التصوير، أو لنواحي التصميم الغرافيكي الذي تلعب فيه الحواسيب دوراً رئيسياً، مروراً بحجم الإيرادات التي حققها عبر شبابيك التذاكر حول العالم والتي حطمت جميع الأرقام القياسية، وانتهاء بالاستقبال النقدي والجماهيري والجوائز التي حصدها (والتي من المتوقع أن يحصد المزيد منها).
قصة الفيلم
يحكي هذا الفيلم قصة جندي أميركي مقعد (جايك) يتم إرساله إلى كوكب بعيد في الفضاء يسمى “باندورا”، والذي تعيشه عليه كائنات مسالمة زرقاء اللون تسمى “نافيي” يبلغ طولها 3 امتار. كانت تلك الكائنات تعيش بأمن واستقرار قبل وصول البشر الذين جاؤوا للتنقيب عن معدن ثمين جدا في هذا الكوكب. يدخل “جايك” ضمن مشروع علمي مكان أخيه التؤام الذي توفي خلال وجوده على الأرض. وهذا المشروع العلمي مبني على أساس صنع كائنات مشابهة لكائنات “باندورا” وإسكانها بروح الأنسان تمهيدا لدراسة حياة كائنات “باندورا”. وهذه النسخ تعرف باسم “الأفاتار”.. التي جاء منها اسم الفيلم. يدخل الجندي نسخته الجديدة (أفاتار. روح إنسان بجسد يشابه إلى حد بعيد أجساد النمور) وترافقه العالمة المشرفة على المشروع في نسختها الأفاتارية وينطلقون للبحث في الكوكب بهدف البحث العلمي، وللعثور على مناجم المعدن الثمين. على الكوكب الجديد، وبعد مواجهة مع حيوانات ضارية يضيع “جايك” في غابات الكوكب ويحاول العودة، ولكنه يلتقي بفتاة محاربة تساعده ظنا منها انه مرسل ليساعد أبناء جنسها. وتأخذه الى موطن قبيلتها والذي هو عبارة عن شجرة ضخمة. ويعيش عندهم فترة 3 أشهر فيتعلم عاداتهم وطريقة حياتهم ولغتهم الخاصة، وأيضا يعثر على منجم هائل للمعدن الثمين والذي يقع تماما تحت الشجرة. يحاول “جايك” إقناع الشعب بمغادرة الشجرة لأنه يعلم أن البشر سيأتون ليدمروها وليستولوا على المنجم، لكنه يخفق بذلك. بعد تدمير الشجرة يستخرج من نسخته قسرا بأمر قائده العسكري والذي يمنع إعادته للكوكب، يحتجز الجندي مع العالمة ومساعديها في قاعدة عسكرية وما يلبثون أن يهربوا ويعودوا لمساعدة سكان الكوكب في الحرب ضد البشر، وينتصرون بعد معركة ضارية.
في معنى الصراع والجسد
قصة الفيلم من حيث المبدأ ليست جديدة، إذ كثيراً ما تم تناولها في أفلام كثيرة، (فيلم: رقص مع الذئاب، مثالاً)، وخصوصاً.. فكرة تحول البطل من معسكر إلى آخر ودفاعه المستميت عمن يفترض أنهم خصومه. كما أن فيلم أفاتار الذي ينتمي بكل جدارة إلى فئة أفلام غزو الفضاء.. لا يعد فيلماً مبتكراً أو ريادياً، وتبقى النقطة الأكثر إثارة للإعجاب هي قدرة الفيلم، بخصائصه المدهشة والرائعة، على إلغاء قماشة شاشة العرض السينمائي، وليست مصادفة أن يكون هذا الفيلم في طليعة الأفلام التي تم تصويرها بكاميرات ثلاثية الأبعاد، فالجديد في هذه المشاهدة أن الجمهور يصبحون في قلب الحبكة السينمائية بفضل المؤثرات العالية الدقة والتقانة.
في المعنى، يدين الفيلم منذ البداية فكرة القوة التي تقوم عليها مقولات الصراع، فالجندي المعاق “جايك” لن يكون سبباً لإثارة الشفقة، ولا حتى لإثارة الإعجاب، بل لعقد المقارنة بينه وبين الجنود الآخرين الممتلئين صحة وحيوية وقوة، ولكن المشاهد سيكتشف فيما بعد أن هؤلاء الجنود مهووسون بالانتصاروالتفوق، ليحقق الفيلم قفزة صادمة على مستوى المفاهيم، وهي أن الإعاقة الأكثر إثارة للشفقة هي الإعاقة الذهنية، أو بكلمة الأخرى: إن ما يستحق الرثاء هو الأفكار المعاقة..
وهكذا فإن الجندي “جايك” المعاق جسدياً، يمتلك قوة وانطلاقاً روحياً يؤهله من فهم ثقافة سكان كوكب باندورا، في حين يعجز الأصحاء الأقوياء من رفاقه عن ذلك.
أما الإدانة الثانية في هذا الفيلم فكانت في إدانة الغزو، كمفهوم وكحقيقة وكرمز. لقد انقسمت أفلام الفضاء إلى فئتين كبيرتين، إحدهما تتحدث عن غزو بشري لكواكب أخرى، والثانية تتحدث عن غزو مخلوقات فضائية لكوكب الأرض.
في أفلام الفئة الثانية التي تتحدث عن غزو مخلوقات فضائية لكوكب الأرض، قدمت معظم الأفلام السينمائية.. المخلوقات الفضائية ككائنات شريرة تريد السيطرة على الأرض أو تدميرها (نتذكر هنا فيلم “إي. تي”، للمخرج ستيفن سبيلبرغ، والذي كان فيلماً صادماً، لأنه قدم تلك المخلوقات ككائنات مسالمة وطريفة)، بينما تتحدث أفلام الفئة الأولى عن هبوط البشر على كواكب أخرى، بهدف الاستكشاف، أو بث الرسالة الإنسانية الحضارية، والتي غالباً ما تنطوي على رسائل كولونيالية تبشيرية..
في فيلم “أفاتار”، وعلى خلاف ما يرى البعض، ثمة إدانة للرسالة الكولونيالية، حتى ولو كان البطل الذي يصنع الانتصار الأخير والمذهل هو الرجل الأبيض.. الأمر الذي حصل في فيلم “أفاتار”، حين تبنى “جايك” قضية شعوب “باندورا”، وقادهم إلى النصر المؤزر على البشر. بل إن هذا الفيلم ينسف الثقافة الكولونيالية من أساسها، وذلك بسبب أن “جايك” يهجر قومه، ويتحمس للثقافة الجديدة بقيمها الجديدة ومضامينها الخيرة وأبعادها الأخلاقية. يتحمس “جايك” لهذه الثقافة ويتبناها ويحارب الثقافة التي جاء منها ويهزمها. وهذا انتصار لـ”ثقافة” كائنات “باندورا” التي أتبتت قدرتها وصلاحيتها للاعتناق بسبب مضامينها وحواملها الطبيعية وقيمها التي تحمل خيراً بكميات أصعب من أن يتم تجاهلها.
وبهذا المعنى، فإن الفيلم يحمل إدانات من عدة مستويات، نسبية ومطلقة. ففي علاقة “جايك” مع الفريق العسكري الذي جاء معه، هناك إدانة لأفراد وقادة الفريق. وفي علاقة البشر مع كائنات باندورا هناك إدانة وشجب كبيرين للتجربة الإنسانية التي تقوم في كثير من الأحيان على أساس من الإحساس بالتفوق ورغبة بالغزو والسيطرة على الآخر واستعباده.
وإلى ذلك فالفيلم مليء بالمعاني والإشارات والرموز التي من الصعب حشدها في مقالة واحدة، وهذا ما يجعل من الفيلم فيلماً متعدد القراءات والرسائل.
الفيلم من بطولة سام ورثينغتن، وزوي سالدانا، وميشيل رودريغز. ومن إخراج المخرج الكندي الأميركي جيمس كاميرون.
Leave a Reply