تشي الخطوة “الثورية” التي أقدم عليها الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد برفع درجة تخصيب اليورانيوم في منشأة ناتنز الى 20 بالمئة، أن الرجل لديه من أسباب “الاطمئنان” الى نتائج هذه الخطوة ما يدفعه الى تفجير هذه القنبلة في وجه مفاوضيه الغربيين دون الالتفات الى ردود الفعل المحتملة. والتي لم يتأخر الأميركيون والفرنسيون عن إبدائها فتوعدوا الرئيس الإيراني بعقوبات إضافية سريعة.
القرار الايراني الجديد لم يدارِ ظاهرا حتى روسيا، أحد المقربين الدوليين القلائل من نظام الثورة الاسلامية الذين أظهروا حتى الآن اعتراضا على تشديد العقويات، واعتراضا أشد على العمل العسكري لاعادة الملف النووي الايراني الى بيت الطاعة الدولي.
تتقن إيران، بلا شك، فنون دبلوماسية تقطيع الوقت وتعزيز المكاسب، والمسؤولون الإيرانيون الذين تعاقبوا على إدارة ملف أزمتهم مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بصلابة أعيت المفاوضين، ونجحوا حتى الأن في استدراج عروض أكثر سخاء ومرونة من أي وقت مضى فيما يخص حصول طهران على الطاقة النووية، لا ينفكون يمارسون دبلوماسية قضم الوقت بنجاح يشهد له، مستفيدين من التناقضات الدولية حيال ملفهم النووي ومستخدمينها أفضل استخدام في تعزيز شروطهم للاستجابة الى المطالب الأميركية والغربية ورفع ثمن الاستجابة الى سقفه الأعلى.
غير أن المسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية يدركون أن ثمة قرارا أميركيا بتطويع الطموحات النووية لبلدهم وإخضاعها لمعايير تقيدها بسلسلة من الاجراءات والشروط الكفيلة بإزالة أي احتمال في وصول طهران الى تقنية إنتاج سلاح نووي.
على أن الاعلان الإيراني الأخير على لسان أحمدي نجاد يتجاوز بتوقيته ومغازيه تحدي الغرب وما يترتب عليه من مخاطر تتراوح بين تشديد العقوبات والضربة العسكرية. فالاعلان عشية الذكرى الحادية والثلاثين للثورة الاسلامية التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي في 11 شباط 1979 توخى إطلاق رسالة عن قوة وتماسك النظام الثوري الاسلامي الذي أسسه الامام الخميني وينقسم الإيرانيون حول إرثه بصورة خطيرة منذ الإعلان عن فوز الرئيس أحمدي نجاد في الانتخابات الرئاسية في حزيران (يونيو) الماضي.
والحال أن طهران التي لم يفاجئها رد الفعل الأميركي والفرنسي السريع على اعلانها رفع درجة التخصيب الى العشرين بالمئة، حرصت، وعلى متن الخطوة الثورية إياها، أن تبقي خياراتها مفتوحة ومرنة مع إبداء استعدادها لتبادل اليورانيوم الموجود لديها بالوقود النووي عندما تتحسن شروط هذا التبادل.
وبدا أن كلا الطرفين الأميركي والغربي والإيراني حرصا على عدم سد النوافذ أمام أي مخرج “مشرف” في المواجهة الديبلوماسية حتى الآن.
لذا كان من اللافت مسارعة وزير الخارجية التركي داود أغلو الى زيارة طهران والبحث مع المسؤولين الايرانيين في إيجاد “حلول وسط” لمسألة التبادل التي شاع الحديث عن إمكانية إجرائها على الأراضي التركية.
غير أن ما تخفيه أزمة الملف النووي الإيراني يظل أكبر وأعمق مما يطفو على سطح هذه الأزمة. فواشنطن ولندن وباريس تخوض مع طهران أكثر من معركة “صامتة” على هامش الاحتلال العسكري الأميركي والحليف في أفغانستان والعراق، حيث تبرز أهمية التسهيل والتعاون الايراني في أوضاع ذينك البلدين متى قرر الأميركيون الانكفاء أو الانسحاب وترك حكم حليف يؤمن المصالح الحيوية للولايات المتحدة والغرب.
لم يكن سرا أن طهران مارست “الحياد الإيجابي” حيال عملية إسقاط نظامين عدوين لها في كابول وبغداد هما حركة طالبان ونظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، لكن الفهم الأميركي لـ”التسهيل” الايراني في بدايات الغزو العسكري ظل فهما خاطئا لما تضمره طهران، وساد اعتقاد، خصوصا لدى الادارة الأميركية السابقة أن الوجود العسكري الأميركي على كل الحدود الايرانية في الخليج وفي أفغانستان من شأنه أن يرعب الإيرانيين ويخضعهم للمشروع الأميركي بفعل حضور القوة العسكرية الأميركية.
إلا أن الحسابات الأميركية اصطدمت بانخراط طهران في إثارة المشاكل بوجه الاحتلال الأميركي الذي أثار الريبة الايرانية منذ اللحظة الأولى، وشعرت طهران بالخطر الأميركي والغربي على نظامها الاسلامي، فاندفع نظامها مسرعا في التصدي لهذا الخطر على جبهتين متوازيتين:
اثارة المشاكل للاحتلال الأميركي في العراق عبر القوى العراقية الحليفة لها، إما بالانتماء المذهبي أو بالتحالف الموضوعي مع قوى عراقية أخرى مناهضة للاحتلال الأميركي.
والعمل على تسريع وتيرة برنامجها النووي في محاولة لفرض حقائق اقليمية جديدة وخلق قوة ردع نووية وصاروخية تشكل حماية للنظام الإيراني ولمصالحه ونفوذه في منطقة الخليج وامتدادا الى الشاطئ الغربي للبحر المتوسط عبر تحالفها مع قوى الممانعة والمقاومة في دمشق ولبنان وقطاع غزة.
وما التجاذب القائم حاليا حول الملف النووي الايراني سوى احد أوجه الصراع الايراني–الأميركي الذي قد لا يطول كثيرا قبل أن يجد تعبيراته الحربية في أكثر من منطقة من مناطق النفوذ التي يشملها الصراع، وفي الظل انسداد آفاق أي تسوية سياسية للخلاف الإيراني مع الغرب.
أما العقوبات التي تلوح بها واشنطن وحلفاؤها ضد طهران فقد لا تكون بالنسبة للنظام الاسلامي في إيران أيضاً، أقل من إعلان حرب، لما لتلك العقوبات المحتملة من آثار مدمرة على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الايراني.
ثمة تقديرات متقاطعة أن المسألة لم تعد تكمن بامكانية اندلاع الحرب الاقليمية الكبرى من عدمها، بل في توقيت اندلاعها، وأي الطرفين سيبادر أولا الى اطلاق الشرارة الأولى.
فهل يشكل الاعلان الايراني عن رفع درجة التخصيب ذريعة لواشنطن وحليفتها الاقليمية اسرائيل لإخراج خططها الحربية من الأدراج ووضعها أمام القادة لأخذ القرار السياسي بإطلاقها؟
وهل يكون إعلان الرئيس أحمدي نجاد أمام “الحشود المليونية” في طهران في ذكرى انتصار الثورة عن انتاج أول شحنة من الوقود عالي التخصيب وعن قدرة ايران على انتاج وقود مخصب بنسبة 80 بالمئة أو أكثر، تلميحا بأن طهران قد قطعت بالفعل الشوط الكبير على طريق دخول النادي النووي الدولي؟
وهل يشكل الاعلان الايراني هذا مسوغا “شرعيا” للولايات المتحدة والغرب، بخلاف الذرائع الزائفة لغزو العراق، من أجل شن حرب ضد ايران، تتخذ هذه المرة من “المجتمع الدولي” غطاء لها؟
وبالتالي هل يكون رفع التخصيب في منشأة ناتنز سبباً لرفع “تخصيب” النوايا الحربية الأميركية والاسرائيلية في ظل موقف روسي بدأ “يشكك” بنوايا طهران ويحذرها من عواقب خطوتها ومن أن الحرب قد تخرج من الاحتمال “القائم نظريا” وفق التوصيف الروسي، الى حيز التبلور عمليا؟
Leave a Reply