إذا كان لقب مايك تايسون هو “القاطرة البشرية”، فإنني أحبّ أن أحظى بلقب “الدرّاجة الهوائية”.. لأنني أحب المرور في الجوار. وأنتِ.. لك اللقبُ الذي لا يصدأ. لقب “سكين المطبخ”، لأنك الجريمة النائمة. الجريمة التي في الـ”كوما”..
سأربّي شعري وأجدله كالبدو.. لأتمرّن على الرحيل. لا أطيق الإقامة. سأربّي الأرانب.. لأنني لا أتحمّل فكرة أن تحبلَ المرأة تسعة شهور لتضع طفلاً واحداً. بقبيلة من الأطفال أحلم. بقبيلة منهم.. بدفعة واحدة، متشابهين كالأرانب. بنصف دزينة من التوائم على الأقل.. متشابهين ويلتبسون عليّ. حين كنت طفلاً.. كثيراً ما كنت أركض وراء الفراشات وأضيّعهن في مساكب الفول.التبست عليَ الفراشات بين أزهار الفول البيضاء المنقطة بالأسود..
لو كان صوتي جميلاً لغنيّتُ لكِ.. في الممرّ. كان المغنّي يغنّي.. وكنتُ أطلق الرصاص في الأعراس. كثيراً من الرصاص أطلقتُ من البهجة.. وانتصر المغنّون. الصوت الحلو.. محتلٌ ومستعمر. لا.. الصوت الحلو فاتحٌ تشرع له أبواب القلاع وإهراءات القمح. الصوت الحلو يعبر الأسوار.. والجنود بلا خوذٍ وسيوفهم معلقة على الجدران. الصوت الحلو يغزو المدنَ والعروشُ تسجد له. الصوتُ نقيضُ الكتابة. الكتابة تسمّمُ البئر.. وتضرب الحصار. الكتابة تأليفٌ. الكتابة خطة محكمة ونية بالاكتساح. الكتابة تنزع إلى العظمة. الكتابة بسط سلطان وإطلاق يد الجنود في المدينة. الكتابة حلم في السبي والغنيمة. الكتابة بربريّة وغزو والغناء وحده من الفاتحين.
لو كان صوتي أحلى.. لغنّيت لكِ. ليس الكلامُ.. اللحنُ هو المسألة. إذن لجذبتكِ من أذنيكِ. أقصد من مسمعيكِ. الكائنات التي لا تسمع “لا يعوّلُ عليها”. الكائنات التي لا تسمع، لا تنقاد. الكائنات التي بلا آذان.. ليس عندها أسرار. ولا تلمّح بالرموز. ولا توسوس. لو كان صوتي أحلى.. لغنّيت حسب “الحَلَق”. الحَلَقُ غوايتي. الحَلَقُ شيفرة المزاج. الحَلَق منصة الشهوة. الحَلَق شكل الإيقاع. الحَلَق الطويل فرح.. ورغبتك بالرقص. الحَلَق الطويل يتراقص. الحَلَق الطويل امرأة جاهزة للأخذ..
والكائنات التي لا تسمع “لا يعوّل عليها”. ليس مجازاً. كان الأمير تشارلز في الحديقة يتحدث، والأميرة الحزينة ديانا سألته: مع من تحكي؟ مع الأزهار، هي تسمع وتنمو.. قال. ثمة أحد حولك بحاجة أن تحادثه، قالت. وكانت تقصد نفسها. وكانت الأميرة تحب الأصوات الجميلة، و”تنطرب” للآخرين..
لكانَ البشرُ أسعدَ حظاً لو كان بالإمكان تعلّم الغناء. والذين يعزفون على الآلات الموسيقية يعرفون. الآلات الموسيقية شعوب وقبائل. عرب وعجم. أشراف وعلوج. العزف مكيدة. العزف استعارة. العزف ترميم زجاج محطَم. العزف.. صوت بعيد وأخرس. العزف تمرين على الحبو. يقف الطفل ويقع. يقف الطفل ويستند على الكرسي. يقف الطفل ويحاول المشي فيقع، فنبتهج، وترقص قلوبنا. يقف الطفل فيقع، ثم يقف فيقع.. في النوم. العزف ينام ولا يحلم. الطبلة نوم الرقص. الرق نوم العابد. الطبل نوم الوحش. العود إغفاءة المرأة الحامل. الكمان نوم المطر والستائر. البيانو نوم الأصابع التي تنقر على الطاولة، أو على الأبواب. الصوت الحلو ينام، ولكنه يحلم في نومه..
كل الكائنات تعلم أبناءها الغناء. البشر كذلك. أولُّ ما تغني الأم لطفلها الوليد. البكاء غناء الطفل وليس جرس الإنذار. المناغاة غناء. الأم تغني لابنها لينام. الأم تغني لابنها ليعود من السفر. الأم تغني لابنها ليأخذ العروس. الأم تغني لابنها حين يموت. الكائنات التي لا تعلم أبناءها الصمت، والبشر يفعلون. البشر يعلمون الصمت بصرامة. بقسوة. بفظاظة. الصمت خطة. الصمت دسيسة. الصمت المطبق مؤامرة تحاك بعناية. الصمت نقطة التحول. الصمت أول يوم في المدرسة..
وأنا سيء الحظ لأنني ذهبت إلى المدرسة. أنا عاثر الحظ لإنني تعلمت كيف أكتب اسمي. وسيء النية والطوية لأنني تعلمت القراءة والكتابة. ليس الأميّ من لا يقرأ ولا يكتب. الأميّ من لا يغنَي. المدرسة خطة الدولة لتوطين البدو الرّحل. سأربّي شعري وأجدله كالبدو لأعلن التمرّد. سأضرِب في الأرض لأتعلم دهشة الأشياء والعناصر، سـ”أضرب في الرمل”.. لأن الحقيقة احتمال لا أكثر. وقراءة الكف والطوالع والأبراج أكثر جدوى من قراءة الكتب..
Leave a Reply