اعتُمِدت المقولة الفرنسية الشائعة “دعه يعمل.. دعه يمر” كشعار أساسي لـ”الرأسمالية” التي عملت على تحرير التجارة وإلغاء القيود الجمركية بين البلدان. ولم تقتصر وظيفة تلك المقولة على ترسيخ المبادئ الرأسمالية، إذ تم استعمالها على نطاق واسع في تبرير عمليات الفساد والإفساد الماليين والاقتصاديين، بدعوى التخفف من قسوة القوانين وبيروقراطية المؤسسات.
وهكذا، وبفضل التفسير الانتهازي لعبارة “دعه يعمل.. دعه يمر” نجح الكثير من التجار والشطار في الإفلات من المحاسبات القانونية والأخلاقية والاجتماعية.
وفي الواقع، ورغم أن الأنظمة السياسية في عالمنا العربي تتوزع بين فريقين كبيرين، أحدهما يعتمد سياسة السوق الحر بكل آثاره الكارثية، وثانيهما.. يعتمد على نظام اقتصادي مستوحى من المنظومة الاشتراكية بكل تطلعاتها نحو مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، إلا أن الفريقين الكبيرين اعتمدا على “دعه يعمل.. دعه يمرّ” التي كانت بمثابة الماكينة الجبارة التي تعمل ليل نهار بدون ضجيج وبدون أعطال طارئة، وقد أثرى كثيرون بذلك، وفسد كثيرون، وأُفسد كثيرون أيضا..
ولكن الأنظمة السياسة ذاتها التي تسامحت مع “رجال الأعمال” وتعاونت وتواطأت معهم، وكانت شريكة ومُباركة لهم في معظم الأحيان، أظهرت وجهها الخشن وقبضتها الصارمة في وجه رجال الفكر والفن، فضيّقت عليهم وحاربتهم وزجت بهم في غياهب السجون.
فقد سمحت تلك الأنظمة لرجال أعمالها بعبور الحدود (بكل أنواعها) وشرعت لهم القوانين لتسهيل حركتهم وزيادة أرباحهم ونفوذهم، وأقامت في المقلب الآخر الحواجز والعوائق أمام المبدعين والمفكرين الذين يحاولون اجتياز الحدود.. التي أصبح تسمى في الوعي العام بـ”الخطوط الحمر”.
وماتزال محاكمة الكتاب والمبدعين والمفكرين قائمة تحت ذرائع شتى، ومبررات عديدة، ليس أقلها التخوين والعمالة وإضعاف الشعور الوطني وتوهين عزيمة الأمة، ولم نسمع عن أي رجل أعمال أنه قد أوهن عزيمة الأمة أو أنه أضعف الشعور الوطني..
والمثير للتساؤل والخيبة، أن الكثير من المؤسسات المدنية والحقوقية والدينية والاجتماعية تلعب أدوراً قذرة في هذا الموضوع، بدون درايتها حيناً، وبالتواطؤ مع التوجه العام للنظام السياسي القائم في أحيان كثيرة، فتعمد تلك المؤسسات إلى قمع الكتاب والمفكرين ومحاصرتهم تحت طوائل عديدة، وتحت أنظار الدولة ومسامعها. ودائماً النتيجة ذاتها.. تنجح المؤسسات المدنية في منع نشر كتاب أو مصادرته، أو إيقاف عرض مسرحي أو سينمائي، ولكنها تفشل في مواجهة أي أزمة اقتصادية أو اجتماعية، أو تعديل أي واقع (ولو طفيف) من شأنه أن يحسن حياة الجمهور الأوسع من المواطنين الرازحين تحت وطأة الفقر والبطالة والأمية.
وتتواتر الأخبار القادمة من عالمنا العربي وتتواصل أنباء المحاكمات والمصادرات والتوقيفات بشكليها العرفي و”القانوني” ويزداد عدد الكتاب والمفكرين والمبدعين الذين يدخلون في خانة الاضطهاد الذي تمارسه الدولة، مضافاً إليه عسف المؤسسات الاجتماعية الأخرى، ولكننا لا نسمع أخباراً عن محاكمة فاسد، أو مرتش، أو سمسار، أو مستثمر. هؤلاء ينتحرون غالياً!
ولا تنتهي عمليات الاضطهاد عند الإنتاج الفكري والنقدي، بل بدأت تطال “المدونين” ومتصفحي الانترنت، خاصة أولئك الذين يجتهدون في استشكاف المواقع الإلكترونية التي تقوم الأنظمة بحظرها وإغلاقها ووضعها على قائمة الممنوع، قائمة بدأت تطول وتطول..
حالنا العربي.. حال يصح فيه القول: “دعه يفكر.. دعه يدفع الثمن!”.
Leave a Reply