بصرف النظر عن مدى دقة الكلام الذي نسبه الصحافي الأميركي سيمور هيرش للرئيس السوري بشار الأسد خلال لقاء معه قبل نحو أسبوعين، ومفاده أن الحرب الأهلية في لبنان يمكن أن تندلع خلال ساعات أو أيام وأن سوريا لا تثق بالأوضاع اللبنانية المتقلبة، وأن الأمر الوحيد الكفيل بإحداث استقرار في هذه الأوضاع هو إعادة صياغة جذرية لأسس النظام الطائفي القائم.. بصرف النظر عن ذلك، يثبت النظام اللبناني مرة جديدة أنه سبب دائم لاندلاع حروب أهلية بين الطوائف والمذاهب.
ففي غضون أيام، أو ربما ساعات استطاع الافرقاء المسيحيون الذين يرعى بينهم غزال الخلافات ويخوضون سجالات يومية منذ بداية حقبة الاصطفافات السياسية الطارئة على لبنان قبل سنوات قليلة، أن يوحدوا مواقفهم، وإن بصورة مؤقتة، لمواجهة التعديل الدستوري في مجلس النواب القاضي بتخفيض سن الاقتراع الى 18 سنة.
الإخراج الذي لجأت إليه القوى المسيحية، يساندها السنة من منطلق “الالتزام باتفاق الطائف” ظاهرا، ولحسابات مذهبية في الجوهر تتصل بالخوف من “العدد الشيعي” الذي يمكن أن يضيفه التعديل الى العتاد الذي يتسلح به ممثلهم شبه الأوحد في التركيبة اللبنانية.. هذا الإخراج الذي مارس تقية “الامتناع عن التصويت” بدا كاريكاتوريا في مراميه غير الخافية والمتمثلة بالخوف من الذوبان في المحيط الإسلامي الذي من شأن خفض سن الاقتراع أن يسهم في تكريسه.
وفي نظام طائفي من الطراز القائم في لبنان، لا تثير خطوة التراجع عن الالتزام بتوقيع أية محاذير على صعيد صدقية الطرف السياسي الذي يتصدى لقيادة طائفته بل أنه يبعث بتأكيد الى الخائفين من رعايا الطائفة “أننا خير من يمثلكم” عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الدور والوجود المهددين بالطغيان العددي.
ففي جلسة نيابية واحدة، لإجراء تعديل أصر رئيس المجلس النيابي على طرحه، صوت “ممثلو الأمة” بـ”الامتناع عن التصويت” بأكثرية موصوفة ضد الاقتراح، باعثين برسالة مدوية إلى كل من يهمه الأمر أن النظام الطائفي في لبنان وجد ليبقى وسوف يبقى، طالما أن العلاقة الوحيدة الثابتة بين طوائف البلد هي علاقة الخوف المتبادل وانعدام الثقة بالآخر، في ظل متغيرات اقليمية ودولية لم تتضح معالمها النهائية وينتظرها أمراء الطوائف للبناء على مقتضاها كل من حساباته المختلفة عموما والمتناقضة على وجه أعم.
تفيد الخطوة “الثورية الطائفية” باسقاط مشروع تخفيض سن الاقتراع أيضا، بأن الاصطفافات السياسية القائمة على التلوين الطائفي الناجم عن تفاهمات، ليست أكثر من ورقة في مهب رياح الخوف والحذر التي تعصف بالبلد الصغير والتي لا يبدو أن هدوءها متاح في الأفق المنظور. ذلك بلد معلق وجوده على كم من التطورات والتغييرات التي تلوح في أفق المنطقة، ولا يجرؤ أهل الطوائف فيه على المغامرة بأية خطوة من شأنها أن تدخل تعديلات بنيوية على أسس النظام الذي أثبت حتى الآن، بخلاف كل التوقعات، أنه قادر على إعادة إنتاج ذاته بقوة “الناخبين” إياهم دون أن يرف لأحد منهم جفن.
ليس غريبا على نظام من هذا القبيل أن يقاتل من أجل بقائه على قيد الحياة. الغريب أن بعض أركان هذا النظام يمارسون ما يمكن أن يوصف، بلا تحفظ، بـ”الدجل السياسي” المكشوف في تعاطيهم مع موضوعات ذات طابع وطني.
لنستمع، على سبيل المثال، إلى قائد “التيار العلماني” الأعرض في الوسط المسيحي الجنرال ميشال عون وهو يفتي بأسباب معارضة انخراط الشباب في العملية الانتخابية: “نحن بحاجة أولا إلى تثقيف هؤلاء الناخبين سياسيا وإعدادهم وطنيا!”.
يمكن هنا لأي شاب أو فتاة من هذا التيار أن يتساءل مشدوها عما ينطق به قائدهم الذي أعادته صرخاتهم وتحركاتهم واعتصاماتهم والتنكيل بهم، من منفاه، وتتويجه قائدا بارزا لتطلعاتهم، ما معنى هذا القول في القاموس السياسي للقائد؟
فهل انخراط هؤلاء، وهم بأغلبيتهم الساحقة كانوا دون سن الـ 21 كان ناجما عن “طيش” سياسي و”رعونة” وطنية؟
والحال أن قائد التيار المسيحي الآخر “المحافظ” سمير جعجع بدا أكثر “ذكاء” في مقاربته لموضوع التعديل برمته، حين أفصح عن المخاوف المشتركة لدى مسيحيي البلد وسمى الأمور بمسمياتها الحقيقية، بلا مواربة، معتبرا أن خفض سن الاقتراع، إذا لم يواكبه حق المغتربين بالاقتراع وإعادة الجنسية الى أعداد كبيرة منهم من شأنه أن يخل بـ”التوازن الوطني” (التعبير المؤدب للتوازن الطائفي).
أما وحدة الموقف المسيحي العابرة والمؤقتة التي أملتها الظروف الحرجة الناجمة عن اصرار الطرف الشيعي على تقديم مشروع تطويري للصيغة الطائفية التي ينبني عليها حكم البلد فقد شكلت عبئا على الصراع “الخفي” القائم بينه وبين الطرف المسلم الآخر في محاولاتهما تعزيز مواقعهما عن طريق جذب الأطراف المسيحية كل إلى جانبه، في محاولة إحداث معادلات جديدة وإظهار دور وازن في ادارة دفة السلطة.
على أن خطورة إخفاق مشروع التعديل الدستوري الذي من شأنه أن يجدد الدماء في عروق النظام الطائفي التي ضربها اليباس تكمن اساسا بالرسالة التي بعث بها المجلس النيابي المنتخب على أسس طائفية، إلى شريحة واسعة من جيل الشباب باستحالة التغيير الذي يحلمون بتحقيقه، وهؤلاء ينتمون الى كل الطوائف.
الأخطر أن يقال لهؤلاء الشباب وفق رسالة “ممثلي الشعب” أن دوركم يقتصر على ملء الشوارع في أزمات الانقسام، وأصواتكم لم تخلق لصناديق الاقتراع، بل لكي تصدح بأسمائنا التي نعرف كيف نوصل أصحابها إلى البرلمان!
كأن “الامتناع عن التصويت” أراد أن يقول مواربة: تعيش الطوائف.. يسقط الوطن.
أما “الدولة” فما من حاجة بعد اليوم أن يتندر المتندورن في سؤالهم “المهضوم”: “وين هيي الدولة”؟!
فاذا كان الوطن وهو فكرة يتعلق بها المواطن ويربط من خلالها انتماءه الى المكان، يجري العمل على تحطيمها فمن يجرؤ بعد أن يحلم بـ”دولة” ترسم لها كل طائفة صورة على شبهها؟
ما أتعس النظر في ألبوم “الدول” اللبنانية!
Leave a Reply