سحبت سفيرها مع اغتيال الحريري واعادته في يوم ذكراه الخامسة
بيروت –
بعد خمس سنوات عاد السفير الأميركي الى دمشق، وتزامنت عودته مع الذكرى الخامسة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، والذي تسبب بسحب الولايات المتحدة الأميركية لسفيرها، بعد أن وجه رئيسها آنذاك جورج بوش وإدارته، أصابع الاتهام الى القيادة السورية، بأنها تقف وراء الجريمة وتم تحريك ما سمي بـ”ثورة الأرز” والتسمية لبوش نفسه الذي استند في ذلك الى وجود معارضة كانت ترعاها الإدارة الأميركية، ممثلة بـ”لقاء قرنة شهوان” الذي انتدب له البطريرك الماروني نصر الله صفير المطران يوسف بشارة لترؤس اجتماعاته وتوجيهه، لأن الهدف كان إخراج القوات السورية من لبنان، ولم يكن ممكناً ذلك دون حدث كبير بحجم تفجير موكب الحريري، لإحداث صدمة كبيرة، واستنفار الشارع وإيقاظ مشاعره وغرائزه، وهذا ما حصل. وقد استدرك الرئيس بشار الأسد المؤامرة عليه وعلى بلاده بعد الاحتلال الاميركي للعراق، والدعوة “البوشية” لقيام “شرق أوسط كبير” فقرر الانسحاب كلياً من لبنان عسكرياً وأمنياً وسياسياً لمواجهة ما يحاك ضد سوريا التي حوسبت على دعمها للمقاومة بوجه الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين والأميركي في العراق.
قرار إدارة بوش كان في عزل سوريا وتحجيم دورها عربياً وإقليميا ومنع أية إطلالة دولية لها، وشحن بعض القوى اللبنانية ضدها، وقد استخدمتهم في التحريض على النظام لإسقاطه، كما ساعدت المعارضة السورية لتتحرك، وكل ذلك بالتعاون مع دول عربية لا تؤمن بالمقاومة، وتسير في نهج الاستسلام ولا ترى شراً في إسرائيل، بل في إيران ونفوذها الديني والفارسي، كما كانت تتحدث قياداتهم في مواقفها وتصاريحها.
صمدت سوريا رغم كل القوانين والقرارات التي صدرت لمحاسبتها، كما تخطت موضوع لجان التحقيق الدولية التي أنشئت إثر اغتيال الرئيس الحريري وتعاونت معها، وكان المقصود منها تشكيل أداة ضغط عليها، فلم تنجح المحاولة، كما فشل مشروع تطويع وإقصاء حلفائها في لبنان، الذين تصدوا للهيمنة الأميركية وأدواتها الرسمية والسياسية والحزبية، التي كانت ممثلة بـ”قوى 14 آذار” وسقطت الفتنة المذهبية التي رفعوها بوجه “حزب الله” لدفعه الى الاقتتال الداخلي، وتجريد سلاحه من صفة المقاومة وتحويله الى سلاح ميليشيا، لكن صمود المقاومة بوجه العدوان الإسرائيلي في تموز 2006، وتصديها خلال 33 يوماً له، بالرغم من استخدام إسرائيل لكل أصناف أسلحة الدمار، فمارس سلاح المقاومة دور الردع وربح لبنان المعركة، ومعه سوريا التي مدته بالسلاح، الذي اكتسب شرعية في الميدان ضد العدو الإسرائيلي الذي بات يحسب ألف حساب لأية حرب جديدة يهدد بها.
وقد حذر الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله قادة العدو بان الدفاع عن لبنان سيكون مختلفاً هذه المرة، والرد سيكون مؤذياً في حال التعرض للمدنيين أو للمرافق العامة، أو للمدن والقرى، فمقابل بيروت والضاحية الجنوبية، تل ابيب، ومقابل مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري مطار “بن غوريون”، ومقابل كل قرية سواء في الجنوب أو خارجه مستوطنة.
فالقوة التي أظهرتها المقاومة في حرب تموز قبل أربع سنوات والتحذيرات التي أطلقها السيد نصر الله أعطت قوى الصمود والممانعة الدور في تقرير مصير ومستقبل المنطقة، وباتت سوريا الرقم الصعب في معادلتها، ولم يعد التهديد الذي يحمله إليها كما الى لبنان موفودون دوليون، يربكها أو يرعبها، إذ كان الرئيس الأسد واضحاً ان إسرائيل تقود المنطقة الى حرب شاملة، كما جاء رد وزير الخارجية السورية وليد المعلم على تصريحات وزير خارجية إسرائيل افيغدور ليبرمان، عالي النبرة بوصف قادة العدو بـ”الزعران”، وأن المدن الإسرائيلية ستكون في مرمى الصواريخ السورية. وقد أصبحت سوريا في موقع متقدم عما كانت عليه قبل خمس سنوات وأسقطت ما كان يسمى حصارا، ولم تنفع معها عقوبات بقيت حبراً على ورق، وباتت هي الممر الإجباري لكل من يريد من الخارج للدخول الى المنطقة، لأنها تملك مفتاح الحل والربط فيها، وقد اعترفت لها دول العالم بدءاً من أميركا مروراً بأوروبا، ووصولاً الى آسيا، وبالطبع الدول العربية، أنها صاحبة أوراق اللعبة، الأمر الذي فرض على زعماء العالم ان يأتوا الى دمشق للقاء الرئيس الأسد، والتباحث معه في شؤون المنطقة، وطلب مساعدة سوريا في السلام والاستقرار.
لقد رحلت حقبة “بوش – شيراك” اللذين أصدرا القرار 1559 مطلع أيلول 2004، ليكون أداة ضغط على سوريا وحلفائها في لبنان، وبدأت مرحلة جديدة، بعد أن سقطت مفاعيل هذا القرار، ولم يعد سوى حبر على ورق، وغاب ناظر هذا القرار تيري رود لارسن، لكنه يحاول أن يحرك من فترة الى أخرى، موضوع سلاح المقاومة على أنه ما زال موجودا،ً لكنه لم يلق التجاوب من الداخل اللبناني، سوى من قلة سياسية وحزبية قليلة، بعد أن تنكر أطراف لبنانيون لهذا القرار، الذي ثبت أنه قرار-فتنة، واعترفت الحكومات المتعاقبة منذ العام 2005 على أن المقاومة شرعية وحق طبيعي للبنان أن يدافع عن أرضه مع الجيش والشعب.
ففي سوريا اليوم سفير أميركي جديد اسمه روبرت فورد، الذي وافق الرئيس الاميركي باراك اوباما على تعيينه في اليوم الذي استشهد الرئيس الحريري، ولهذا التعيين في هذا التاريخ رمزيته، إذ تحاول الإدارة الاميركية الجديدة التكفير عن ما ارتكبته الإدارة السابقة التي فشلت في عزل سوريا كما أعلنت، وبات الموفدون الأميركيون في زيارات دائمة لدمشق، يبحثون مع المسؤولين السوريين في المساعدة بحل أزمات بلادهم في المنطقة لا سيما في العراق، إضافة الى عملية السلام، والتعهدات التي تقدمت بها واشنطن من خلال إدارتين جمهورية وديمقراطية في البيت الأبيض في قيام دولتين إسرائيلية وفلسطينية وتجميد المستوطنات اليهودية، ليبدأ البحث في الحل النهائي. فالإدارة الأميركية الجديدة لم تر أمامها سوى سوريا باباً للحل، كما قالت قبل سنوات رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوسي وهي من الحزب الديمقراطي، وقد حضر مؤخراً الى دمشق مساعد وزير الخارجية الاميركي وليم برنز، وحمل معه رسالة من الرئيس اوباما الى الرئيس الأسد، يؤكد فيها ان “بلاده مستعدة لتحسين العلاقات مع سوريا، والالتزام بتحقيق سلام عادل وشامل بين العرب والإسرائيليين على كل المسارات”.
ورسالة اوباما واضحة، وهي اعتراف لسوريا بدورها وحجمها، وهو ما سبقه إليه أيضا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي بدأ عهده بالانفتاح على الرئيس الأسد، ودعوته للمشاركة في احتفالات الثورة الفرنسية في تموز 2008، ثم زيارته الى دمشق مرتين، وزيارة ثانية للرئيس السوري الى باريس، حيث قطعت العلاقات بين البلدين شوطاً متقدماً، تُوجت بزيارة رئيس الحكومة الفرنسية فرنسوا افينيون وهي الأولى منذ 13 سنة، والتوقيع على اتفاقيات اقتصادية ومالية وأمنية.
لم تعد فرنسا تنظر الى سوريا إلا نظرة الشريك، كما أن دول أوروبية أخرى، سعت إلى تطوير العلاقات معها، وان تدخل سوريا في الاتحاد المتوسطي، لأن حجم التبادل التجاري لبعض الدول الأوروبية مع سوريا ليس بالقليل، ويصل الى حوالي العشر مليارات دولار سنويا، وتحتل فرنسا وإيطاليا واسبانيا وألمانيا، موقعاً مهماً في الميزان التجاري، إضافة الى استثمارات أوروبية في سوريا.
فالتعاون الذي تبديه واشنطن مع دمشق، تريده ان يبدأ من محاربة الإرهاب المختلف عن المفهوم السوري، إذ حضر مع بيرنز منسق وزارة الخارجية لمكافحة الإرهاب دان بينجامين، وتداول مع المسؤولين السوريين في محاربة الإرهاب، إذ أن واشنطن مدينة لدمشق بتقديم معلومات لها عن شبكات إرهابية لتنظيمات إسلامية أصولية، والتي خبرتها سوريا منذ الثمانينات من القرن الماضي، وخاضت معارك معها لاجتثاث الفكر الإرهابي، حيث دعا الرئيس الراحل حافظ الأسد الى عقد مؤتمر دولي للتعريف بالإرهاب، وتمييزه عن المقاومة وهو موضع خلاف أميركي–سوري، حيث تصنف الولايات المتحدة سوريا بأنها دولة راعية للإرهاب، ذلك أنها تدعم المقاومة، دون ان تشير الى ان إسرائيل دولة إرهابية منذ نشوئها وحتى اليوم، وما اغتيال القيادي في حركة “حماس” محمود المبحوح في دبي، واكتشاف منفذي الجريمة من “الموساد” الإسرائيلي، وتزويدهم جوازات سفر أوروبية، إلا تاكيداً على إرهاب الدولة العبرية منذ نشوئها، وهذا يفرض أن تتحرك الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي باتجاه وضع إسرائيل على لائحة الدول الإرهابية، وهذه معركة على الدول العربية وحلفائها في العالم أن يخوضوها أمام الرأي العام الدولي ومنظمات حقوق الإنسان.
لقد ربحت سوريا معركتها السياسية، بوجه المشروع الاميركي السابق للشرق الأوسط، ودحرته مع المقاومة في لبنان، وبالتحالف مع إيران التي تخوض معركة برنامجها النووي السلمي في مواجهة تهديدات دولية بفرض عقوبات عليها، مع تناسي أن إسرائيل تمتلك أسلحة ورؤوساً ومراكز نووية. والانتصار الذي حققته سوريا، بصمودها خلال السنوات الخمس الماضية، وثباتها على مواقفها الوطنية والقومية، ورفضها بيع المقاومة والقبض عليها، هو ما جعلها موقع احترام الدول، التي لم يعد يزعجها أن تطور علاقاتها معها، لأن من دونها لن يكون هناك سلام واستقرار في المنطقة، وقد سعت إليهما القيادة السورية، لكن إسرائيل ليست على هذا النهج، بل هي تعد جيشها وقواتها لحرب جديدة من خلال مناوراتها وتعبئة الجبهة الداخلية، وسد الثغرات التي ظهرت في حرب تموز 2006، وفق تقرير لجنة “فينوغراد”.
إن هذا الدور القيادي الذي اتخذته سوريا في العالم العربي، دفع بدول عربية الى مصالحتها، لا سيما السعودية التي تراجعت عن اتهام نظامها باغتيال الحريري، وتعاونت معها على إعادة ترتيب الوضع اللبناني، وكان لدمشق الدور الفاعل في تسهيل حصول انتخابات رئاسة الجمهورية، كما في تشكيل حكومة وحدة وطنية ترتاح للتعامل معها، كما ابتعدت عن التأثير في الانتخابات النيابية، وتركت الشعب اللبناني يعبر عن رأيه، وقد ساهم ذلك في فتح طريق بيروت–دمشق التي زارها سعد الحريري رئيساً للحكومة، كما تستعد لاستقبال النائب وليد جنبلاط، وهي بذلك تقف على مسافة واحدة من الجميع.
لقد تحصنت سوريا بمواقفها ولم تتزحزح عنها، ففرضت على الآخرين المجيء إليها، الى الموقع الصحيح، بعد أن غادروا أمكنتهم الخاطئة التي راهنت على مشروع أميركي يفرض هيمنته على المنطقة ويقيم أنظمة تابعة له تحت عنوان الديمقراطية، لكنها ستكون مستسلمة أمام العدو الإسرائيلي والاعتراف بكيانه الغاصب، وفتح الحدود معه، لتحقيق “الشرق الأوسط الجديد” الذي اقترحه الرئيس الإسرائيلي الحالي شيمون بيريز، مطلع التسعينات من القرن الماضي، لتكون إسرائيل الدولة الأقوى في المنطقة اقتصادياً، وتدخل من باب التطبيع إلى الأسواق العربية التي تتحول إلى مراكز لاستهلاك الصناعات اليهودية.
Leave a Reply