ترى، كم من الأسرار والأخبار والدسائس والصفقات سنعرف إذا ما رفعت السرية المصرفية عن البنوك السويسرية؟ وبشكل مخالف للمتوقع، ومفاجئ، كم من العلاقات والأشواق والمشاعر والعواطف ستنفضح.. ليتناقلها الجمهور الأوسع من الناس أسوة بالفضوليين والنمّامين و”أمناء” الأسرار؟
وهل خطر ببال أحدكم أن يفتتح حساباً سرياً في أحد البنوك ليخبئ أسراره ورسائله الخاصة، كما فعلت الكاتبة السورية غادة السمان التي استودعت أرشيفها غير المنشور ورسائلها الشخصية في أحد المصارف السويسرية؟ قد يستطيع من قرأ “رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان”، المنشور في العام 1992، أن يجد الأعذار المناسبة للفتاة الدمشقية المتمردة على مدينتها وتقاليدها، وربما يستطيع ذلك القارئ أن يجد أسباباً “واقعية” لحائزة شهادة الماجستير في “مسرح اللامعقول” من الجامعة الأميركية في بيروت، لتبرير ذلك التصرف.
ومهما بدا الأمر “لامعقولاً” وغرائبياً ومبالغاً فيه، فيجدر بنا أن نتذكر أن “اللامعقول” ليس نتاج خيال مريض، بل على العكس.. قد يكون نتاج عقل جارح في عقلانيته وواقعيته. ألم يذهب صموئيل بيكيت، رائد “مسرح العبث واللامعقول” إلى إنتاج هذا النوع من الفن بعد تعرضه لطعنة سكين في صدره، من متسول، في حادثة واقعية (ولامعقولة)، لم يفهم أسبابها ودوافعها المسرحي الإيرلندي، صاحب “بانتظار غودو”؟!
ويعرف المتابعون، أن رسائل الشهيد غسان كنفاني التي نشرتها غادة السمان في كتاب خاص، قد أثار الكثير من البلبلة وردود الأفعال الصاخبة في الأوساط الثقافية والكفاحية، بدعوى الإساءة إلى صورة المناضل الفلسطيني، الثلاثيني المريض (بالسكري)، الذي أقض مضاجع الإسرائيليين، فعمدوا إلى نسفه بالديناميت، في الحازمية في بيروت العام 1972، خوفا وجزعا من مشروعه الأخطر “مشروع الذاكرة الفلسطينية”..
في تلك الرسائل، يطالعنا غسان العاشق النحيل المتوسل الساهر الولهان المشتاق.. إلى آخر قائمة الأسماء التي ليست حسنى.. بمنطق أبناء “الكفاح المسلح”. وكان غسان قد كتب في إحدى رسائله: “وزّعتُ كتبكِ. تحدثتُ عنكِ كثيرا. فكرّت بك. بك وحدك.. وأنت لا تصدقين.. وأنتِ حين (أعذب نفسي في المساء) موجودة في “الماي فير” مع الناس والهواتف والضحك. حاولي أن تكتبي لي: فندق سكارابيه شارع 26 يوليو. القاهرة. فسيكون أحلى ما يمكن أن يلقاني حين عودتي رسالة منك لأنني أعرف أنك لن تأتين”.
ولا أثر في تلك الرسائل، لصاحبة مقال “سأحمل عاري إلى لندن” سوى أثر المرأة المستبدة، وغير المبالية بالرجل الذي يتضور حباً، الرجل الذي أحبه الجميع “إنني معروف هنا، وأكاد أقول “محبوب” أكثر مما كنت أتوقع. وهذا شيء، في العادة، يذلني، لأنني أعرف بأنه لن يتاح لي الوقت لأكون عند حسن ظن الناس بي، وأنني في كل الحالات سأعجز في أن أكون مثلما يتوقعون مني. طول النهار والليل، أستقبل الناس، وفي الدكاكين يكاد الباعة يعطونني ما أريد مجاناً وفي كل مكان أذهب إليه استقبل بحرارة تزيد شعوري ببرودة أطرافي وقصر رحلتي إلى هؤلاء الناس وإلى نفسي. إنني أشعر أكثر من أي وقت مضى أن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح وأنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمه، وذلك كله يشعرني بغربة تشبه الموت وبسعادة المحتضر بعد طول إيمان وعذاب، ولكن أيضا بذلٍ من طراز صاعق. ولكنني متأكد من شيء واحد على الأقل، هو قيمتك عندي…”.
ربما سنعرف إذا ما أفرجت غادة السمان عن أرشيفها ذات يوم، سنعرف فيما إذا كانت.. قد باحت بحبها لغسان، وبرّرت أسباب تعذيبها لذلك الفتى الشره للتدخين والكتابة. فغادة التي كانت من أوائل الدمشقيات اللواتي ذهبن إلى الجامعة ركوباً على الجامعة.. لا تنقصها الجرأة لإعلان عواطفها ومشاعرها، وهي بالتأكيد ليست أقل جرأة من مي زيادة التي اعترفت بحبها لجبران خليل جبران عبر المراسلات التي دامت بينهما لعشرين عاماً، ومن دون أن يتمكنا من رؤية بعضهما البعض.
ومي زيادة، لم تقصر رسائلها على جبران، بل تعدتها إلى مراسلة المصرييْن مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد، ومثلها (أو أكثر منها) فعلت غادة السمان، فماذا، يا ترى، يضم أرشيفها؟ وماذا تحتوي رسائلها إلى الصحفي ناصر الدين النشاشيبي، والشهيد الشاعر كمال ناصر، الذي اغتيل هو الآخر في عملية للموساد الإسرائيلي في بيروت، قادها رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، عام 1973، وكان وقتها مقدماً في الجيش الإسرائيلي.
البنوك تصلح أيضاً، لاستيداع ما هو أثمن من المال والذهب، تصلح لاستيداع الذكريات والأسرار. أنا أيضاً.. سأفتتح حساباً سرياً..
Leave a Reply