قد يكون مطلوبا إخضاع زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الى اسرائيل وبعض دول المنطقة الى “علم الفلك السياسي” عوضا عن اخضاعها للمنطق السياسي المعروف في الحكم على العلاقات بين الدول.
فنائب الرئيس الأميركي هو أرفع مسؤول في الإدارة الأميركية يزور اسرائيل منذ وصول الرئيس باراك اوباما الى البيت الأبيض قبل أكثر من عام. وهذه الزيارة جرت احاطتها بالكثير من التوقعات المتفائلة حول اصرار الإدارة الأميركية على احداث ثغرة في جدار المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين ومهدت لها مواقف للرئيس الأميركي الذي اعاد ارسال مبعوثه جورج ميتشل للاشراف المباشر على مفاوضات غير مباشرة بين الطرفين “أفتى” بجواز إجرائها مجلس وزراء الخارجية العرب في جلسته الأخيرة في القاهرة.
غير أن ما استقبلت به اسرائيل نائب الرئيس الأميركي وما ودعته به يثير الكثير من الشكوك حول اهداف الزيارة من أصلها، وهل هدفت فعلا الى تحريك المسار التفاوضي وإلى اي مدى؟
فمبادرة الحكومة الاسرائيلية الى الاعلان عن خطة لبناء 1600 “وحدة سكنية” جديدة في مستوطنة رمات شلومو في القدس الشرقية، وزعم وزير الداخلية الاسرائيلي أن “توقيت القرار لا علاقة له بزيارة نائب الرئيس الأميركي لاسرائيل” يثير الأسئلة حول النوايا الحقيقية للحكومة الاسرائيلية ويفيد بأن ما يقال وراء الأبواب الموصدة لا يعكس بتاتا ما يقال أمام عدسات الكاميرات.
وما مغزى أن “يدين” نائب الرئيس الأميركي الخطوة التصعيدية والاستفزازية الاسرائيلية ويصفها “بالاجراء الذي ينسف الثقة الضرورية في الوقت الحاضر ويذهب باتجاه معاكس للمحادثات البناءة التي أجريتها في اسرائيل”. إذا كانت هذه الخطوة تتناقض مع المهمة الأساسية المعلنة التي حضر من اجلها الى اسرائيل وبعض دول المنطقة؟
يقود هذا الى التساؤل عن الاهداف الاخرى الكامنة وراء زيارة بايدن الى اسرائيل وعن آفاق “التفاؤل” الاميركي باعادة الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني الى سكة التفاوض غير المباشر وبوسائل الكترونية هذه المرة (مواقع التفاعل الاجتماعي والبريد الالكتروني) ويبدو المشهد برمته سيناريو لتقطيع الوقت لتكييف الموقف المتشدد للحكومة اليمينية في اسرائيل مع المواقف الحذرة للادارة الاميركية فيما يتعلق بالملف النووي الايراني.
وقد يصح القول ان نائب الرئيس الاميركي يدرك مسبقا ما هي نوايا حكومة نتنياهو وخططها لاطلاق حرب موضعية او اقليمية أو الإثنتين معاً من اجل استدراج الولايات المتحدة الى اعادة الانخراط الحربي المباشر في صراعات المنطقة بعد التجربتين المريرتين في كل من أفغانستان والعراق.
وتبدو الادارة الاميركية وكأنها على وشك فقدان السيطرة على الطموحات الاسرائيلية باعادة خلط الاوراق السياسية والعسكرية في منطقة الشرق الاوسط برمتها في محاولة لاعادة مكانتها وهيبة ردعها بعد سلسلة الاخفاقات التي واجهتها في السنوات العشر الأخيرة، وتحديدا منذ اضطرارها الى الانسحاب من الاراضي اللبنانية المحتلة ومن قطاع غزة، دون أية مفاوضات مع الطرفين اللبناني والفلسطيني والحصول على اتفاقات امنية تضمن لها حدودا هادئة.
ويتمظهر الخوف الاميركي من استباق اسرائيل للأجندة الاميركية في المنطقة بالنبرة الفاقعة التي استخدمها بايدن في محاولته طمأنة اسرائيل الى الدعم الاميركي لها.
كلام من نوع “إن اساس علاقتنا هو الالتزام المطلق والتام والثابت بأمن اسرائيل” و”يحصل التقدم في الشرق الاوسط عندما يدرك الجميع انه ليس هناك ببساطة أي مسافة بين الولايات المتحدة واسرائيل عندما يتعلق الامر بأمن اسرائيل”.
.. هذا الكلام الصادر عن المسؤول الذي يتولى الملف العراقي الذي يتوقع ان تشكل الانتخابات فيه مفصلاً يحدد الكثير من التوجهات الإقليمية والدولية في المرحلة المقبلة، ويعد من أبرز وأهم اصدقاء اسرائيل في الادارة الاميركية، له ابعاده التي تتخطى تحذير حكومة نتنياهو من ضربة استباقية وقائية ضد المنشآت النووية الايرانية، الى تنسيق سياسي وعسكري وامني غير خاف يهدف الى توقيت اي ضربة عسكرية اسرائيلية لإيران على الساعة الاميركية التي تفضل ادارة الرئيس اوباما، أقله في المدى المنظور، أن تضبطها على نظام عقوبات تجهد لاقناع روسيا والصين بإرسائه لكبح الطموحات النووية الايرانية بوسائل ضغط اقتصادية ودبلوماسية قبل اللجوء الى الخيار العسكري.
وتدرك الادارةالاميركية ان حكومة نتنياهو التي تضم ائتلافا من عتاة المتطرفين قد تغامر بضربة عسكرية تضع الادارة امام خيار اوحد في دعمها سياسيا ومعنويا وعسكريا اذا اقتضت الضرورة طالما ان لإسرائيل اصدقاء في الكونغرس الاميركي بضفتيه الديمقراطية والجمهورية مستعدين لدفع ادارة الرئيس اوباما الى شن حرب اخرى في المنطقة اذا شعروا بأن أمن اسرائيل مهدد.
من هنا، يأتي التحذير التركي من قيام اسرائيل بشن حرب في المنطقة وتسارع الجهود التركية لمحاولة اعادة احياء المسار التفاوضي غير المباشر بين اسرائيل وسوريا واعلان رئيس الوزراء اردوغان عن جهوزية سوريا لاستئناف هذه المفاوضات وعن تلقيه اشارات ايجابية بشأنها من اسرائيل التي سارعت الى نفي اتخاذها قرارا حتى الان باستئناف التفاوض مع دمشق بوساطة تركية.
فهل استطاع نائب الرئيس الاميركي اقناع اسرائيل بالتزام الاجندة الاميركية فيما يخص الملف النووي الايراني وفق الاهداف المعلنة للزيارة؟
وهل هدفت الزيارة الى شد أزر نتنياهو في المحافظة على ائتلافه الحكومي، فاضطر بايدن الى ابتلاع حبة التوسع الاستيطاني الاسرائيلي مقابل “تريث” حكومة نتنياهو في تنفيذ خطط حربية لا تلائم خطة الخروج الاميركية من المستنقعين الأفغاني والعراقي؟
لكن ثمة جديد في الخطاب الاميركي الموجه نحو ايران منذ اسابيع وتحديدا منذ رفض القيادة الايرانية صيغة تبادل اليورانيوم منخفض التخصيب بوقود نووي لتشغيل المفاعلات الايرانية للاستخدام السلمي. هذا الجديد تمثل بالنبرة القاسية التي استخدمها وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس ضد السياسة الإيرانية من كابول، وقائد القوات الاميركية في منطقة الخليج وشرق اسيا الجنرال بترايوس، عندما وصف النظام الايراني بـ”عصابة مجرمين” واتهم طهران بلعب دور مزدوج في افغانستان عبر تقربها من نظام كابول ودعمها “المدروس” لحركة طالبان في الوقت ذاته. والرد الايراني الذي لا يقل قسوة على لسان رئيس البرلمان علي لاريجاني .
ثمة مغزى ايضا لقول الرئيس اوباما ان امام العراقيين اياما صعبة قادمة وبما ينبئ بأن الانتخابات التي جرت الاسبوع الفائت قد لا تتمخض عن استقرار سياسي وأمني تريده الإدارة الأميركية معبرا لانهاء التورط الاميركي في العراق مع الحفاظ على المصالح الاميركية في البد الذي تعد آباره النفطية بإنتاج 12 مليون برميل يوميا وتغري محيطه بمزيد من التدخل لاستقطاب مواقع نفوذ في خارطته السياسية.
امام المشهد الشرق الأوسطي المعقد، تتزاحم الاحتمالات ويصعب التكهن بوتيرة التطورات الا أن الثابت أن وجهتها تنبئ بشر مستطير يبقى المرشح الأبرز لانطلاقته هو لبنان الذي يداري زعماؤه خوفهم هذه الايام “بهيئة حوار وطني” لا تستطيع أن تطلق حتى حوارا حول ما اصطلح اللبنانيون على تسميته بـ “الاستراتيجية الدفاعية”.
أما القمة العربية المقررة في ليبيا فلن تكون أكثر من فسحة ترفيه يظهر فيها “ملك ملوك افريقيا” ألوانا جديدة من فنونه التمثيلية مع استبعاد أن يعلن “الجهاد” ضد اسرائيل لانشغاله على الجبهة… السويسرية!
Leave a Reply