هل أدركت دمشق ان هضمه أفضل من ابتلاعه؟
أفصح الزعيم الدرزي التقدمي النائب وليد جنبلاط عن مكنونات نفسه أمام الصحفيين في قاعة الانتظار، قبل الدخول إلى “غرفة عمليات” قناة “الجزيرة” في أحد أجنحة قصر المختارة الأسبوع الماضي.
قال إنه يحن الى “الزمن الجميل” للحركة الوطنية اللبنانية. تذكر الشهيد جورج حاوي والسياسي اليساري المخضرم “المتقاعد” محسن ابراهيم. كان المشهد وفق ما نقله بعض المراسلين أشبه بلحظات تسبق الخضوع الى جراحة يتوقف عليها مصير “المريض” فتدفعه الى تصفح سريع لصفحات الذاكرة الجميلة.
المقابلة – الحدث جرى التمهيد لها اعلاميا على أكثر من مستوى لبناني واقليمي. وبنى “حزب الله”، عرابها وعراب الزيارة الدمشقية المعلقة للزعيم اللبناني الذي بدت عليه أعراض التمرد قبل سنوات قليلة ضد الواقع الذي حكم علاقات بلده بالشقيق السوري على مدى عقود ثلاثة.. بنى آمالا كبيرة بأن تشكل مفصلا حاسما في “شفاء” الرجل من أعراض معاداة “الممانعة” المكتسبة التي أصابته خلال السنوات الخمس السابقة.
بدا الرجل الذي يعطي لبنان نكهته الخاصة، وكان قد وعد بـ”آخر كلام” لديه، كأنما يضع وصيته قبل الخضوع لمبضع “الجراح” غسان بن جدو في “مستشفى” قناة “الجزيرة” الفضائية لاستئصال ذلك “الورم الخبيث” من مجاريه السياسية المعقدة وذات الالتواءات الحادة.
كان المشهد مهيبا في القصر التاريخي الذي تزينه صور الزعيم الوطني الراحل كمال جنبلاط والزعيم العربي الكبير جمال عبدالناصر. لكن الحقبة مختلفة. لا كمال جنبلاط هنا ولا عبدالناصر هناك، ووريث الزعامة الجنبلاطية الذي انتفض على نفسه قبل أشهر محدثا ثورة في موازين القوى الداخلية استهل “آخر الكلام” بمعادلة جديدة من معادلاته المثيرة الجدل:
“قلت سابقا سأسامح لكن لن أنسى.. أقول اليوم سأسامح وأنسى. لا أريد توريث نجلي تيمور الأحقاد والمشاكل”. حتى الوردة الحمراء التي كان يضعها بيده على ضريح والده أعلن أنه سيطلب من نجله وضعها على الضريح برفقة أحد الأمناء على السيرة والمسيرة الجنبلاطية أمين سر الحزب التقدمي المقدم شريف فياض.
تعيي هذه المبادرة علم النفس السلوكي لقادة من هذا الطراز. لا أحد قادر على “تحليل” وليد جنبلاط قدر وليد جنبلاط نفسه. يكاد الرجل يغري بتبويب جديد لعلم النفس لإدخال ما يمكن تسميته بـ”علم النفس الجنبلاطي” الى ميادينه التحليلية.
يستهل غسان بن جدو عملية “الجراحة السياسية” لضيفه بسؤال توهّم أنه أول جرعة تخدير تمهيدا “لاستسلام” وليد جنبلاط لسلسة الأسئلة التي يفترض أن تفضي الى استيلاد العبارة الذهبية المنتظرة: “إنني أعتذر”.
حديث الاعتذار كان قد سرى في الأوساط اللبنانية مسرى النار في الهشيم، لكن “كرسي الاعتذار” تحول، لدهشة المحاور بن جدو، الى كرسي اعتراف ومراجعة وممارسة للنقد الذاتي، بل انها لم تخل من الإصرار على قناعات سابقة لكن بحلة جديدة. لكن المحاولات المتكررة التي جربها بن جدو لانتزاع عبارة “أنا أعتذر من الرئيس بشار الأسد” لم تفلح. تهيب بن جدو الموقف.. ارتبك مرارا وهو يعيد موضعة مبضعه في جسد الكلام المتماسك الذي امتلك وليد جنبلاط زمامه طوال المقابلة.
أعاد بن جدو الكرة: “ماذا تقول للمسؤولين السوريين؟ وماذا تقول للشعب السوري؟” استبدل صيغة السؤال ثانية وثالثة ورابعة، لكن الضيف استمر في ابداء قدر كبير من التماسك والهدوء والجدية.
“لقد قلت كلاما غير لائق بحق الرئيس بشار الأسد، وكان كلاما بعيدا عن الأدبيات السياسية.. وجاء في لحظة “تخل” وفي لحظة انقسام هائل وغضب، هل يتجاوز الرئيس بشار ما صدر عني؟ لست أدري” أجاب جنبلاط.
كثر توقعوا أن تفرز مقابلة الجزيرة وليد جنبلاط “جديدا”، وأن يكمل قفزته الكبيرة من منصة “14 آذار” الى منصة “8 آذار” لكن الرجل بدا شديد الحرص على البقعة الوسطية التي يتمترس فيها هذه الآونة. أمعن الرجل في تسريب قناعاته عن طبيعة العلاقة بين “الشعبين على أرض واحدة لكن ضمن دولتين” وأعاد إطلاق السؤال غير المرغوب به عن “لبنان الساحة” وإنفراده بالمواجهة مع العدو الإسرائيلي ومدى قدرته على الاستمرار بها. أقر بأن سلاح المقاومة “أمر واقع”، لكنه دعا الى انخراط هذا السلاح يوماً ما (ليس غداً) ضمن مشروع الدولة.
وحده “حزب الله” بدا مدركا للمدى الذي يمكن أن يذهب اليه وليد جنبلاط لقطع المسافة المتبقية في الطريق الى دمشق ولقاء الرئيس بشار الأسد، ووحده الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله كان قادرا على اقناع القيادة السورية بأن ما قاله الرجل يجب أن يعتبر كافيا لطي صفحة الماضي واستقباله بصورة لائقة في عاصمة الأمويين.
لذا، لم تتأخر البشارة، يومان، ثلاثة أيام، وكان عند أمين عام الحزب الخبر اليقين: جنبلاط في ضيافة الرئيس السوري قريبا. كان عدم ارتياح صحيفة “الوطن” السورية المقربة من النظام من مجرى المقابلة خادعا، ولم يجدِ “التشخيص العلاجي” لوليد جنبلاط الذي أجراه الصحفي ابراهيم الأمين في “الأخبار” البيروتية في تغيير مقدار شعرة مما كان الأمين العام لـ”حزب الله” قد قدره بشأن حجم “الاذلال” الذي تمناه كثر للزعيم العائد الى بطاح “الممانعة” على بساط من التساؤلات والاستفسارات المحمولة على عبارته الشهيرة “لست أدري”. كان السيد نصر الله أكثر اللبنانيين ادراكا لأهمية طي هذه الصفحة السوداء بين زعيم الدروز بلا منازع (رغم تواضعه في وصف نفسه خلال المقابلة) والقيادة السورية التي كرمت طلب الحليف الاقوى والأكثر صدقية معها زعيم “حزب الله” وقائد المقاومة السيد حسن نصر الله الذي يدرك أن جنبلاط ولو بموقعه الوسطي يظل حاجة ضرورية لمشروع المقاومة المحاصر من كل جهات الدنيا.
غدا أو بعد غد سيذهب وليد جنبلاط الى دمشق ولن يكون مهما استقباله في “قصر الشعب” أو في “قصر المهاجرين” وهذا الأخير تلائم تسميته الزائر أكثر من الأول. فهذا الزعيم اللبناني الممعن في هجراته السياسية قد تزود “للربع الخالي” السوري بقطرة اعتراف عوضا عن قارورة اعتذار.. اعتذاره الوحيد كان، لصدمة محاوره، من “الشهداء المسيحيين” الذين سقطوا على هامش اغتيال والده قبل ثلاثة وثلاثين عاما في فورة الغضب الدرزية التي اضطرته آنذاك الى مغادرة مراسم الدفن للقيام بمهمة مستعجلة لتهدئة الخواطر وإعادة الأمور الى نصابها في ذلك اليوم الذي لف بسواده جبل التعايش الدرزي-المسيحي. والقيادة السورية سوف تتعاطى مع صديق الضرورة والاضطرار العائد الى ربوعها بما تستحقه مواقفه الأخيرة من اهتمام ولإدراكها أن هضم الحليف القديم على مراحل، يبقى أسهل من ابتلاعه. لكنها مرحلة جديدة بأي حال، سوف تلقي بظلالها الكثيفة على صورة المشهد الداخلي الذي لم يعد فيه وليد جنبلاط “طرفا” ورأس حربة.
صحيح أن هذا المشهد افتقد وسيفتقد الكثير من عناصر الاثارة مع جنبلاط “المختلف” لكن جنبلاط “الجديد” قد لا يظهر أبدا قبل أن يعتلي تيمور وليد جنبلاط منصة القيادة في يوم ما، ألمح جنبلاط أنه قد يكون “قريبا”.
جريء هذا الرجل الذي طرح مقايضة دماء والده كمال جنبلاط بالإهانات التي أطلقها بحق الرئيس السوري.
أما مهابة مشهد المقابلة–الحدث على قناة “الجزيرة” فلن تصمد طويلا أمام المشهد الأكثر مهابة وإثارة في أحد القصور الرئاسية الدمشقية بين رجلين كان بينهما ما صنع الحداد.
ترقبوه!
Leave a Reply