المطالبة بإستقالته محدودة ورسالة تحذير بألا يضيّع البوصلة السياسية
بيروت – العهود الرئاسية في لبنان، تبدأ في الانحدار والتراجع بعد عامها الثالث، وأحياناً الرابع، ويبدأ رئيس الجمهورية يفقد قوته في العامين الأخيرين من عهده، حيث تفتح معركة الخلف، إذا كان الرئيس الموجود في القصر الجمهوري لا يرغب في التجديد أو التمديد، حيث لازم هذا الطموح كل الرؤساء، منذ أن أول رئيس للجمهورية بعد الاستقلال، بشارة الخوري، الذي جدّد لنفسه بعد أن أمّن أكثرية نيابية له، في انتخابات حصلت في 25 أيار 1947، ووُصِفت بالمزورة.، وانتهت ولايته بثورة بيضاء عام 1952.
واعتاد اللبنانيون أن يكون رئيس الجمهورية في أول عامين من عهده قوياً، لأنه يحظى بشبه إجماع لبناني، وتأييد عربي وإقليمي ودولي، وهذا ما حصل مع كل مَن انتُخب رئيساً للجمهورية، مع اختلاف كل ظرف سياسي، داخلي وخارجي، وكان خطاب القسم هو البوصلة التي يهتدي بها المواطنون، والتي تؤشر لهم كيف سيكون عليه الحكم في لبنان، وما يأملون منه، في تحقيق الإصلاح، ومحاربة الفساد، وتعزيز دور الدولة، والعمل على إقامة مؤسساتها، وتطبيق القوانين، والحفاظ على الدستور، والى غير ذلك من العبارات الجميلة التي وردت في كل خطب رؤساء الجمهوريات، التي كانت تنتهي مع إلقاء صاحبها كلمته، وتبقى حبراً على ورق، بدليل أن جميع الخطب تشبه بعضها بعضاً، باستثناءات لها علاقة بالظرف السياسي، ولكن العناوين الأساسية هي هي، حتى مع آخر خطاب قسم للرئيس الحالي ميشال سليمان الذي لم ينفّذ منه شيئاً حتى الآن، وهو غير ملزم للحكومات، التي تحاسب أمام مجلس النواب على بيانها الوزاري، في حين أن رئيس الجمهورية يضع رؤيته للحكم، الذي هو غير رئاسي، ما يعني أن خطاب القسم، ليس له مفعول ، بل يستطيع العهد الجديد أن ينطلق منه، ليضمّن البيان الوزاري ما يرغب أن يفعله، ويترجم ذلك من خلال القرارات ومشاريع القوانين التي تصدر باسم الحكومة، الى مجلس النواب ليناقشها ويقرها.
وبعد مضي عامين على انتخابه كمرشح توافقي، وبتأييد عربي وإقليمي ودولي، وهو قليلاً ما توفّر لرئيس جمهورية، فإن العماد سليمان، لم يُظهر قوته في الحكم، ولم يُبرز إنجازاته التي وعد أنها ستتحقق لاسيما في الشق الإصلاحي، وهو ما ينتظره اللبنانيون دائماً، عبر تحرير مؤسسات الدولة بكل فروعها من المحسوبية في التعيينات، الى الفساد والرشوة داخلها، الى تطويرها وتحسين أدائها.
فالرئيس سليمان الذي جاء توافقياً، حاول أن يضيّع دور رئاسة الجمهورية، الى حد إضعاف صلاحياتها، بأكثر مما هي ضعيفة، نتيجة سلبها بعض القوة، بتحويل الوزير أقوى من الرئيس الذي أعطي مهلة لتوقيع المراسيم والقوانين، وقد تحرر الوزير منها، إضافة الى موضوع حل مجلس النواب إلخ…
وهذا الوضع الذي تعيشه رئاسة الجمهورية، دفع برئيس “تيار التوحيد” الوزير السابق وئام وهاب الى أن ينتقد الرئيس سليمان، ويدعوه الى الاستقالة إذا كان لايستطيع أن يكون رئيساً قوياً، لاسيما وأنه يتمتع بقوة التوافق الذي منحه إياه اللبنانيون، والذين رأوا فيه الشخص الذي وقف على مسافة من الجميع، بعدم زج المؤسسة العسكرية في الصراعات السياسية الداخلية، وواجه الإرهاب، ودعم المقاومة، وقد نال كل ذلك بدعم سوري واضح، عندما كانت القوات السورية في لبنان، وبثقة من المقاومة للجيش الذي أُرسيت له عقيدة قتالية، رسم خارطة طريقها أول قائد للجيش العماد إميل لحود الذي تمكّن من أن يكون الجيش والمقاومة على تناغم بينهما، ومواجهة العدو الإسرائيلي بتنسيق تام، ظهر في أكثر من عدوان شنه على لبنان.
هذه القوة الرئاسية من خلال التوافق، بدّدها سليمان، عبر محاولات البعض وضعه في مواجهة قوة مسيحية شعبية، هي “التيار الوطني الحر” برئاسة العماد ميشال عون الذي تنازل عن ترشحه لرئاسة الجمهورية والتي كان يعتبرها من حقه، كونه يمثّل الأكثرية الساحقة من المسيحيين ونسج علاقات مع قوى سياسية وحزبية في طوائف أخرى، لكن في ظل الانقسامات السياسية الحادة في لبنان، وتموضع عون في المعارضة، صُنّف فريقاً، كما مرشح قوى “14 آذار” نسيب لحود، فكان الاتفاق على قائد الجيش، الذي ما إن دخل قصر بعبدا، حتى دغدغته فكرة قيام كتلة نيابية موالية له، روّج لها النائب ميشال المر، الذي قرر وضع رئيس الجمهورية بمواجهة رئيس “تكتل الإصلاح والتغيير”، بعد خروجه منه، كما حاول إقناع الرئيس سليمان إنك وريث عون مسيحياً، فلا تضيّع الفرصة، فزجه فريقاً في الانتخابات النيابية، وقد فضحه رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع عندما طالبه بسحب المرشح إميل نوفل لصالح مرشح “14 آذار” والقوات فارس سعيد، متحالفاً مع مستشاره السياسي ناظم الخوري ابن بلدته عمشيت، ففقد صفة التوافق، كما خسر موقعه في عدم زج السلطة في الانتخابات، حيث بدأت صورته تهتز كرئيس للجمهورية على مسافة واحدة من الجميع، فظهر أقرب الى “14 آذار”.
ولم يكتفِ سليمان بذلك، بل ذهب في مواقفه الداخلية الى الانحياز لقوى “14 آذار”، في تشكيل الحكومة، إذ كان يعارض إعطاء عون حصته الكاملة، من المقاعد الوزارية، كما أنه ساير “القوات اللبنانية” وتساهل مع رئيس الحكومة سعد الحريري.
هذه الصورة الداخلية لممارسة رئيس الجمهورية، زادتها سواداً، أن الرئيس سليمان طالب بحصته في التعيينات، وجاء بشقيقه فريد الى إدارة كازينو لبنان، وأطلق يد شقيقه الآخر محافظ البقاع وجبل لبنان بالوكالة انطوان سليمان، دون حسيب ورقيب، إذ تصاعدت الشكوى عن مخالفات تحصل في المحافظتين، كما ظهر صهره وسام بارودي متدخلاً في الكثير من الشؤون، بحيث أصبح مرجعية لمن له قضية ما في مؤسسات الدولة، وبرز دوره في عدد من التعيينات التي تساهل رئيس الجمهورية فيها، فتخلى عن الآليات القانونية والشفافة، وأخضعها للمحاصصة، ولم يأتِ بالموظف الكفوء والنظيف، بل ساير متحاصصين في الوظائف، بتعيين موظفين لهم ملفات في القضاء.
هذه الأجواء شوّهت صورة العهد مع عامه الثاني، إذ امتلأت الصالونات بكلام عن أن سليمان فشل، وكان عليه أن يكون أكثر حزماً وأن يُظهر قوته بأن لا يطلب شيئاً له، أو لمن يخصه، فيمكنه أن يواجه المحاصصة، وقد كان الرئيس سليم الحص يرفع شعاراً ويمارسه فيقول: أنت قوي في موقعك، طالما لم تطلب شيئاً لك أو لمن يخصك، ولذلك سُمي بضمير لبنان وبالنزيه، وتمّ تعيينه رئيساً للهيئة العربية لمكافحة الفساد.
هذا في الشأن الداخلي، أما في الحقل الخارجي، فإن الزيارات التي يقوم بها رئيس الجمهورية الى الخارج بمعدل زيارتين في الشهر، قد فتحت الأسئلة حول أهداف هذه الزيارات، التي يقول الرئيس عنها أنها لوضع لبنان على الخارطة الدولية، وكأنه كان منسياً من الدول التي تتدخل فيه، وهي الفترة التي فيها تدخل مباشر، لاسيما من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية وعربية أخرى، كما أن اللافت هو حجم الوفود والأعضاء الذين يسمون مع الوفد المرافق لرئيس الجمهورية والمصاريف التي تتكبّدها الخزينة.
وعدا شكل الزيارات، فإن مضمونها هو ما يجري الحديث عنه لجهة معرفة ما يدور فيها مع رؤساء الدول وحكوماتها، إذ ثمة شكوك دارت، عن الزيارتين اللتين قام بهما الرئيس سليمان الى واشنطن وباريس، والبحث الذي دار حول المقاومة وسلاحها، إذ كانت أجوبة سليمان ضعيفة ومترددة وملتبسة، كما ذكرت مصادر دبلوماسية، دون أن يعني أنه تخلى عن مفهوم المقاومة، لكن دفاعه عنها لم يكن كما كان متوقعاً منه في اثناء لقائه الرئيس الاميركي باراك اوباما في واشنطن كما في لقائه مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وهو الذي يُصنف أنه صديق وحليف للمقاومة، التي يعترف لها بدورها في تحرير الأرض وصمودها بوجه العدوان، فلماذا لم يدافع عن سلاحها، كما يجب وفق ما يقول سياسيون لبنانيون، ومنهم وهاب الذي توقف أمام الزيارات وأهدافها، إذ لا يبلّغ أطراف أساسية لبنانية عن نتائجها، مما اضطر “حزب الله” الى تجميع معلومات عنها، وهي التي تعنيه مباشرة، وقد أسهم هو في وصول سليمان الى رئاسة الجمهورية بعد 7 أيار، لأنه يحفظ له موقفه الإيجابي من المقاومة.
وما ترك الشكوك حول سليمان، وموقفه من المقاومة تزداد، دعوته لطاولة الحوار، بعد تسمية هيئتها، التي جاءت خارج المعايير الواحدة، فشطب اسماء شخصيات كان يمكن بوزنها السياسي والشعبي، أن تعطي للحوار قيمته، كما جاء توقيت انعقادها ليطرح أسئلة حول الجهة التي طلبت من رئيس الجمهورية أن تأتي الدعوة بعد قمة دمشق التي جمعت الرئيسين السوري والإيراني ثم لقائهما مع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله، حيث كانت هذه الصورة الجامعة للأسد ومحمود أحمدي نجاد ومعهما نصر الله، رسالة الى من يعنيهم الأمر، أن لبنان ممثل بمقاومته، فكانت الدعوة لطاولة الحوار، كرد على هذه القمة وحضور نصر الله، وفتح سجال لبناني حول المقاومة وسلاحها، لإظهار الانقسام اللبناني حولها، وأن سليمان مازال الرئيس التوافقي الذي يجمع زعماء البلاد على طاولة الحوار.
لكن ما أراده رئيس الجمهورية، بدّدته الحملة ضده على خلفية تشكيل الهيئة. ومغزى توقيت الحوار، وقد سادت شكوك حوله، وقد جاء موقف وهّاب، بدعوته الى الاستقالة، إذ لم يتمكّن من تحقيق ما وعد به، أو رمي الكرة في ملعب من يقف بوجهه، كما فعل الرئيس فؤاد شهاب لإحداث صدمة ما، أو غيره من رؤساء جمهورية كانوا يلوّحون بالاستقالة، إذا شعروا أن هناك مَن يعرقل انطلاقة عهدهم، أو تحقيق ما يرغبون به، وقد فُهم كلام رئيس “تيار التوحيد” وكأنه إيحاء سوري، لما تربطه من صداقة وتحالف مع القيادة السورية، وقد أوضح وهاب أن ما يقوله هو رأيه السياسي، ولا يلزم أحداً من حلفائه، إذا تلكأوا عن المجاهرة برأيهم الذي يقولونه في الصالونات، وهو لا يخبئه، وقد قاله من الرابية بعد لقائه العماد عون، فأحدث ضجة سياسية كبرى، وجرى تفسير ما أعلنه، وكأنه مبرمج مع رئيس “التيار الوطني الحر”، الذي سبق وطالب برئاسة جمهورية لسنتين، وأنه يمهّد لها عبر وهاب الذي نفى أن يكون بحث الموضوع مع عون الذي قال أنه يعبر عن رأيه، وهو ما أكّده نواب تكتل “الإصلاح والتغيير” ووزراؤه، الذين دعوا المدافعين عن رئيس الجمهورية، أن يكونوا صادقين في ما يقولونه، ويعززوا الرئاسة بصلاحيات، وليس بالبيانات، كما أنّهم هم أنفسهم لم يوفروا الرئيس سليمان من انتقاداتهم، وقد قادوا حملة “فل” لإخراج الرئيس إميل لحود من قصر بعبدا، بعد أن همشوا وهشموا رئاسة الجمهورية وهدّموها، وقد فشلوا في إخراج لحود من منصبه الذي بقي فيه حتى آخر دقيقة من المهلة الدستورية.
فاستقالة رئيس الجمهورية، لم يطرحها وهاب، كما أعلن، بل دقّ ناقوس الخطر، وحذّر سليمان من أن عهده قد بدأ ينتهي وهو في نهاية عامه الثاني، وكي لا يستمر في السنوات الأربع على ما هو عليه الوضع، وعليه أن يعيد تموضعه في رئاسة الجمهورية بأخذ دوره وموقعه وممارسة صلاحياته، واستعادة ما فقد منه، وأن يؤكّد على ما كان يعلنه دائماً، أنه مع سوريا وليس مع غيرها، ولا يضع أوراقه في عواصم أخرى، وهذا ما يؤخذ عليه، أنه يقول كلامين أو لغتين في مكانين مختلفين، ويتوجّب عليه تحديد موقفه وموقعه أكثر من المقاومة وسوريا، وأن يبقى توافقياً، وليس أقرب سياسياً الى “14 آذار”.
Leave a Reply