مع تشكل الميلشيات الشعبية في عموم أنحاء الولايات المتحدة خلال تسعينات القرن الماضي، لم يكن سوى عدد قليل من الولايات أقرب إلى قلب الحركة المتطرفة المناهضة للحكومة، من ولاية ميشيغن.
ولقد أسهمت المخاوف الكثيفة من إقدام الحكومة الفدرالية على سحق الحريات المدنية، ونزع أسلحة المواطنين وفرض أحكام عرفية في تحويل ولاية ميشيغن إلى حاضنة دافئة للأنشطة الميليشيوية. فأقدم المواطنون على التسلح وانضم كثيرون إلى الحركة وهيأوا أنفسهم للأسوأ.
لقد شكل هذا الأمر ظاهرة اجتاحت البلاد حتى العام 1995، عندما أدى التفجير الرهيب للمبنى الفدرالي في مدينة أوكلاهوما إلى حصد أرواح 168 من الرجال والنساء والأطفال. وقد جاءت هذه المذبحة الجماعية المذهلة –بالتزامن مع تصعيد في حركة التحقيقات الفدرالية- في إخماد الرغبة في الانضمام إلى الحركة الميليشيوية، لكن ليس قبل أن تتلقى الولاية موجة من الاهتمام الإعلامي، على ضوء التقارير اللاحقة التي طغت على سطح التحقيقات والتي أفادت أن المخططين والمشاركين في مذبحة أوكلاهوما كانوا قد حضروا اجتماعات ميليشيوية في ميشيغن.
إنه تاريخ جدير بالتسجيل، لأنه بعد أكثر من عقد من السنوات خارج دائرة الضوء، عادت الميلشيات بصداها المرعب، إلى الحياة في عموم أنحاء البلاد. وعادت ولاية ميشيغن مرة أخرى لنشكل حاضنة لها.
لقد وثق “مركز الجنوب الحقوقي لدراسة الفقر” (Southern Poverty Law Center) مؤخرا، 34 مجموعة ميليشيوية في داخل الولاية، ما يعد رقما مذهلا إذا أخذنا بالاعتبار أنه قبل عام واحد وجد المركز المركز أن هنالك فقط 42 ميليشيا في الولايات المتحدة برمتها.
واعتبارا من العام 2009، كان ما مجموعه 127 ميليشيا في الولايات المتحدة، وهو ما يمثل ارتفاعا نسبته أكثر من 200 بالمئة.
إن هذا التنامي للحركة الميليشيوية على المستوى الأميركي قد أججه الغضب من التغييرات الديموغرافية في البلاد، والدين العام الذي صار يناطح السحاب إضافة الى الاقتصاد المضطرب ولجوء الرئيس باراك أوباما إلى مجموعة من المبادرات التي وسمها خصومه السياسيون بـ”الاشتراكية” أو حتى بـ”الفاشية”.
على أن الفارق الأساسي بين الحركة الميليشيوية اليوم وتلك التي شاعت في التسعينات يتمثل بوجود رجل أسود على رأس الحكومة الفدرالية. هذه الحقيقة معطوفة على مستويات عالية من الهجرة غير البيضاء، ساعدت في حقن الحركة بمادة متفجرة من الميول العنصرية، والتي لم تكن عنصرا أساسيا في تحريك العمل الميليشيوي في السابق.
وحدث انبعاث هذه المجموعة بالتوازي مع انبعاث مصادر الحركة في التسعينات. وقد اتخذت الحركة الميليشيوية المعاصرة شكلها بصورة جزئية في اجتماع عقده زعماء عنصريون في ايستس بارك في ولاية كولورادو، في العام 1992.
في ذلك التجمع الذي بات يعرف بـ”لقاء الروكي ماونتن” وضعت مجموعة من الزعماء المتطرفين من مختلف أنحاء البلاد تمايزاتها العقائدية جانبا لأجل التركيز على “عدو مشترك” هو الحكومة الفدرالية التي، وفق تفكيرهم “بالغت في فرض الضرائب على مواطنيها وسجنتهم بدون وجه حق وحتى أقدمت على قتل بعضهم”.
ميليشيات اليوم لديها جذور مشابهة وتداعت الى عقد قمة خرجت منها بأيديولوجية مشتركة، ففي شهر ايار (مايو) من العام 2009 التقى حوالي ثلاثين ممن يصفون أنفسهم بـ”حراس الحرية” في جزيرة “جيكيل” في ولاية جورجيا حيث وضعوا تصورات لـ”خطط عمل” من أجل حركة أكبر، بمقدروها التصدي ليس فقط للنظام الضريبي، بل لمجموعة من القضايا التي تهدد بـ”انهيار الجمهورية”.
وتبع تلك القمة “الكونغرس القاري” في ولاية إيلينوي الذي استغرق 11 يوما عدد كبير من ممثلي اليمين المتطرف. وفي الشهر التالي، وفي الذكرى السنوية لتفجير أوكلاهوما، نظم الآلاف من الأعضاء المتحدين تظاهرة في العاصمة واشنطن تأييدا لحق امتلاك السلاح.
لكن لم تكن الميليشيات وحدها التي تعود إلى العمل على الساحة الأميركية بل أيضا مجموعات وطنية مناهضة للحكومة تمثلها منظمات متطرفة ترى في الحكومة الفدرالية عدوها الأول، بدأت في الصعود.
وتتضمن المجموعات “الوطنية” (باتريوت) منظمات تنخرط سراً بنظريات المؤامرة ومعارضة لـ”النظام العالمي الجديد” ومدافعة أو متبنية لتعاليم متطرفة مناهضة للحكومة، مثل الاعتقاد بأن ضرائب الدخل غير قانونية وبأن الأفراد يمكنهم الإعلان عن أنفسهم “مواطنين أصحاب سيادة” مما يخولهم الإعفاء من الضرائب وعدم الخضوع لعدد كبير من القوانين.
ولقد قام “مركز الجنوب الحقوقي لدراسة الفقر” بتوثيق زيادة بلغت 244 بالمئة في عدد المجموعات الوطنية الناشطة (باتريوت) التي تشتمل على ميليشيات، في العام 2009. وقد ارتفع عدد تلك المجموعات من 149 في العام 2008 إلى 512 في العام الماضي.
غير أن الجدير بالملاحظة فعلا، هو أن الأفكار المركزية للحركة الوطنية لا يجري الترويج لها من المجموعات المتطرفة حصريا. فبخلاف حقبة التسعينات، ثمة أناس يمتلكون منابر إعلامية مرموقة مثل الشخصية الإعلامية غلين بك على محطة “فوكس نيوز” والنائب الجمهورية في الكونغرس الأميركي ميشيل بالشمان (مينيسوتا) يوفرون صوتا للحركة.
بك، على سبيل المثال أعاد إحياء نظرية مؤامرة أساسية “وطنية” عبر اتهام “وكالة إدارة الطوارئ الفدرالية” (فيما) بأنها تدير بشكل سري معسكرات اعتقال جماعية، قبل أن يكشف زيف هذا الاتهام أخيرا.
ورأت باتشمان بأن الكونغرس يجب أن يخضع للتحقيق بتهمة “معاداة الأميركية” وبأن الرئيس أوباما يحاول خلق معسكرات إعادة تثقيف سياسي قسري لجيل الصغار واتهمت أعداءها بتبني “رؤية عالمية اشتراكية، أممية”.
ومع ارتفاع سخونة الشعارات المرفوعة ارتفع منسوب العنف بصورة مرافقة.
فقد اقدم متطرفون من الجناح اليميني، ليس لديهم صلات بالميليشيات، لكنهم مع ذلك امتصوا الخطب الرنانة التي لا حصر لها، يحركهم الغلو وكراهية الأصوات المناهضة للحكومة، على قتل ستة من عناصر الأمن منذ تولي الرئيس أوباما تقاليد السلطة. وجرى مؤخرا اعتقال عدد من الأفراد يعتنقون أفكارا مناهضة للحكومة أو عنصرية على خلفية مجموعة من التفجيرات. وما حادثة إطلاق النار في مبنى البنتاغون، والاصطدام المتعمد لطائرة بمبنى وكالة الضرائب في تكساس وحوادث أخرى، سوى أمثلة أولية عن أناس ليس من شك انهم مرضى عقليا، لكنهم تأثروا بشعارات الحركات المناهضة للحكومة واتبعوها نحو نهايات عنفية.
ولا يمكننا إغفال اللهجة القاسية التي يجري تقيؤها في عموم أنحاء البلاد. وقد ساعد الغضب الذي يجتاح شرائح من المواطنين، اليمين الراديكالي في مهمته وأعاد إذكاء حركة أنتجت كماً ضخماً من العنف الإجرامي والإرهاب في الماضي.
لكننا نتجاهل هذه الحقيقة رغم كل المخاطر المترتبة عليها!
مارك بوتوك
مدير المشروع الاستخباري في “مركز قانون الفقر الجنوبي” الذي يراقب منظمات الكراهية والتطرف في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
هايدي بيريك
مدير الأبحاث في المركز.
ترجم المقال إلى العربية عدنان بيضون
Leave a Reply