الحريرية السياسية مستمرة في نهجها المالي والضرائبي منذ 15 عاما
بيروت –
ينشغل اللبنانيون بالقضايا الاستراتيجية، ويتابعون أخطاراً تتهددهم من إسرائيل، باحتمال شن حرب جديدة على بلدهم ومقاومتهم، ثأراً للهزيمة التي تكبدها الجيش الذي لا يقهر، في أثناء عدوان الـ 33 يوماً، ورفضاً لأن يزيد لبنان من قوته سواء من خلال جيشه عبر إعداده تسليحاً وعقيدة قتالية، او باستكمال المقاومة لاستعدادتها البشرية او العسكرية، لمواجهة كل الاحتمالات الاسرائيلية.
إلاّ أن هذا الخطر الدائم والمحدق والتاريخي، منذ أن وُجد الكيان الصهيوني الغاصب في أرض فلسطين عام 1948، لم يقابله المسؤولون اللبنانيون، على مر العقود، بتحصين مجتمعهم وتمتين وحدته الوطنية، عبر تغيير صيغة طائفية، تهتز مع كل تحول داخلي أو خارجي، فيتجه لبنان الى حروب أهلية، بسبب نظامه السياسي، الذي تم تركيبه على أساس طائفي، ولم تنفع الأزمات التي مرت باللبنانيين، الى الارتقاء به نحو نظام المواطنة، لا نظام الرعايا الطائفية والمذهبية، مما أبقى رياح الفتنة تعصف به، وأبقى نسيجه الاجتماعي والشعبي عرضة للتشرذم والتفكك، فلم يذهب اللبنانيون بعد الى إلغاء الطائفية، التي يجمع الجميع أنها كانت وبالاً عليهم.
فإلى جانب المسألة الطائفية، التي تمنع الاستقرار في لبنان، وتعيق تقدمه وازدهاره، وتطور نظامه باتجاه قيام دولة المواطن، فإن المسألة الاقتصادية–الاجتماعية تحتل حيزاً مهماً في ترسيخ الأمن الاجتماعي، الذي كان في كثير من الأحيان سبباً لتفجير الوضع الأمني، ومحطة للعبور الى تحقيق مكاسب فئوية سياسية أو طائفية ومذهبية، بعد الانحراف بالمطالب النقابية والحقوق الاجتماعية والضمانات الصحية وتوفير العلم للجميع، وتأمين فرص العمل، ووقف هجرة الشباب والطلاب الى اتون حقوق الطوائف والمذاهب وضمان امتيازاتها في النظام على حقوق المواطنين.
فبعد مرور نحو خمسة أشهر على تشكيل الحكومة الحالية فإن الأولويات التي وعد بها رئيسها سعد الحريري، لم يبدأ العمل بها وهي ان تتقدم على كل أعمال الحكومة، التي ستعنى بشؤون المواطنين الاقتصادية وهمومهم الاجتماعية والمعيشية، وحاجاتهم الخدماتية من كهرباء ومياه وطرقات وتنظيم للسير وتعزيز التعليم الرسمي ومعالجة ملف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، المهدد بالإفلاس، وتوفير البطاقة الصحية، ومكافحة الفساد والرشوة، ومواجهة البطالة المستشرية، والتطلع نحو أزمة السكن التي ستخلق مشكلة مهجرين جديدة، برمي آلاف المواطنين على قارعة الطرقات دون منازل يأوون إليها، بسبب ارتفاع أسعار الأراضي والشقق لأرقام خيالية وبسرعة غير متوقعة، إذ زادت الأسعار بنسبة 600 بالمئة خلال السنوات الأربع الماضية.
فالحكومة الضائعة في قانون الانتخابات البلدية، التي اتفقت على إدخال إصلاحات عليه الكتل النيابية الممثلة فيها، نقضت ما توصلت إليه خلال المناقشات في مجلس النواب، مما أضاع فرصة إصلاحية.
كما ان هذه الحكومة، دخلت في ملف المحاصصات الطائفية للتعيينات وابتعدت عن آلية تعتمد على معايير الكفاءة والنزاهة، مما شكل انتكاسة للإصلاح الإداري.
فلا إصلاح سياسي ولا آخر إداري باشرت بهما الحكومة، وهي في الجانب الاقتصادي والاجتماعي، لا تبشر المواطنين إلا بمزيد من الرسوم والضرائب، في وقت لا تطمئنهم بأنها ستحسن من وضعهم الاقتصادي، أو ان هذه الأموال المفروضة عليهم وتُسلب من جيوبهم، ستأتي عليهم بالضمانات الاجتماعية والصحية، واستثمارها في مشاريع إنمائية تؤمن المناخ الاستثماري لقطاعات إنتاجية، وتفتح أبواب العمل أمام الطامحين إليه ممن انهوا تعليمهم، ونزلوا الى سوق العمل يفتشون عن وظائف فيها.
فالحكومة تأخرت حتى الآن في إقرار الموازنة، التي لم تعرف طريق مجلس النواب، منذ ست سنوات، لأسباب دستورية وسياسية وأمنية، أما ما قدمته وزيرة المال ريا الحسن من موازنة، والتي تتعثر في ولوج باب مجلس الوزراء، لأن في بنودها فرض رسوم وضرائب، ومنها رفع نسبة القيمة المضافة (TVA) من 10 بالمئة الى 15 بالمئة، ثم في زيادة الرسم على أموال المودعين في المصارف من 5 بالمئة الى 7 بالمئة والى غير ذلك…
وهذه السياسة المالية والضرائبية المتبعة ما زالت سارية المفعول، منذ وصول الحريرية السياسية الى الحكم في العام 1993 إذ اعتمدت على الاستدانة، ولم تؤمن المال لسداده سوى من جيوب المواطنين، بعد ان كانت الديون مربوطة بالسياسة، أي ان الرأسمال العربي والأجنبي سيتدفق على لبنان مع مشروع السلام للمنطقة، وستكون حصته وفيرة، حيث تم ربطه بتوطين الفلسطينيين في لبنان، لكن تعثر عملية السلام، أوقعت الخزينة بعجز بعد أن بدأ الدين العام يرتفع، وترتفع معه خدمته، ويزداد عجز الموازنة سنوياً، ويتراجع النمو الاقتصادي، الى أن وصل الدين الى 51 مليار دولار، وخدمته الى حوالي 4 مليارات دولار سنوياً، ولم ينخفض العجز، الذي بقي في حدود سقف 30 بالمئة، كما أن النمو الذي تحقق العام الماضي والذي بلغ نحو 7 بالمئة، فإنه ناتج عن تدفق الأموال الى المصارف، التي امتلأت بحوالي 110 مليارات من الدولارات، وهو مبلغ لا قدرة للمصارف على استثماره في مشاريع إنتاجية بلبنان، وتحول قسماً منه الى سوق العقارات، الذي دخل لعبة المضاربات وبدأ التخوف من ان يسبب ذلك بتضخم مالي.
فالحكومة تطرح مقايضة في الموازنة، أما الاستدانة وبالتالي ارتفاع الدين وخدمته، لتغطية النفقات وتسديد جزء من الفوائد، أو فرض الرسوم والضرائب ، وفي الحالتين يدفع المواطن ثمن سياسة مالية واقتصادية لم تتغير منذ حوالي 17 عاماً، إذ سعت حكومة الرئيس سليم الحص في عهد الرئيس اميل لحود، الى تخفيض الدين وإدارته بشكل علمي، ووضع خطة خماسية لذلك، مع برنامج اقتصادي–مالي يضع في أولوياته التوجه، الى قطاعات الإنتاج وتشجيع الاستثمار فيه، وتوجيه المال نحوه، وعدم الاتجاه نحو مشاريع غير مجدية على صعيد الإنماء، لكن عمر حكومة الحص، انتهى قبل أن تباشر عملياً في تنفيذ خطتها التي استندت الحكومة التي خلفتها برئاسة رفيق الحريري، الى بعض بنودها، في برنامجها المالي والاقتصادي.
ولم يتعلم فريق الحريري الإبن، من التجربة السابقة إذ ما زال على السياسة نفسها، إما الاستدانة أو الضرائب، وهو اللحس بالمبرد، ولقد انقسمت الحكومة على هذا الموضوع، ووقف وزراء “حزب الله” و”أمل” و”التيار الوطني الحر” ضد زيادة الرسوم والضرائب، دون تبرير لها أمام المواطنين، إذ أن رفع نسبة القيمة المضافة من 10 بالمئة الى 15 بالمئة سيزيد الأسعار تلقائياً أكثر من 50 بالمئة، مما يضرب القيمة الشرائية عند المواطنين، فيزيدون إفقارا، وتختفي الطبقة الوسطى، التي انخفضت نسبتها أكثر وينعدم وجود فقراء ونصبح أمام جائعين.
لذلك تتأخر الموازنة، التي كان الجدول رقم 9 فيها، وهو مخصص للرسوم والضرائب، عقبة أمام الحكومات، لأنه يسبب لها مشاكل أمام الرأي العام، وكيف أن الحالة المعيشية والاقتصادية للمواطنين تتهاوى، مع ارتفاع سعر صفيحة البنزين مع المشتقات النفطية الأخرى كالمازوت والغاز، الى أسعار خيالية، ولم يعد للمواطن من قدرة على تحملها، إذا لم ترفع الحكومة الرسوم عنها، لينخفض سعرها، وهو ما ترفضه لأن موارد الخزينة تأتي من ثلاثة مصادر أساسية تؤمن الدخل المباشر لها وهي: القيمة المضافة ( TVA)، الهاتف الخلوي والثابت، رسوم المحروقات، حيث استسهل فؤاد السنيورة عندما كان وزيراً للمالية أو مكلفاً بها، أن يذهب الى الطرق الأسهل في سلب المواطنين، وهي هذه الرسوم والضرائب، ولم يكلف نفسه البحث عن ضرائب لا تصيب الطبقات الفقيرة والمتوسطة، كالشركات الكبرى والمصارف وأصحاب الرساميل الكبيرة، ووضع الضريبة التصاعدية، بدلاً من الضرائب المباشرة ، وإجراء إصلاح ضريبي ومالي، ثم في وقف الهدر في النفقات التي تظهر في المشاريع الكبرى التي تلزمها الدولة، كالطرقات والجسور والمباني، إضافة طبعاً الى محاربة الفساد في مؤسسات الدولة، وتطبيق قانون الإثراء غير المشروع، وطرح السؤال على كل ما أثرى بأساليب غير قانونية من أين لك هذا؟
فلبنان يعيش تحت سماء من الرسوم والضرائب، ويتساكن تحت سقف من الفساد والصفقات والهدر، إذ يقدر الوفر الذي يمكن أن تجنيه الخزينة من الهدر ومكافحة الفساد، حوالي مليار ونصف مليار دولار، فكيف إذا تم تطبيق قانون الإثراء غير المشروع، وتمت استعادة أموال مسروقة ومنهوبة من خزينة الدولة.
إن اللبنانيين الذي يعيشون قضاياهم الوطنية الكبرى ودفاعهم عن المقاومة، ووقوفهم ضد التوطين، وتمتين علاقاتهم مع سوريا، فإنهم لكي يصمدوا في مواجهة إسرائيل، وفي إفشال المشاريع الخارجية المستهدفة لبلدهم في وحدته ومقاومته، فإنهم أيضاً يرغبون في أن تسود مجتمعهم العدالة الاجتماعية، وأن ينشأ اقتصاد قوي متين يواكب التحديات الإسرائيلية المحيطة بلبنان، بحيث لا يبقى اقتصادنا قائماً على الخدمات وقطاعات معينة كالسياحة، على أهمية ذلك، والدور المميز للبنان في هذا المجال، فإن استمرار العقلية نفسها في رسم السياسة المالية والاقتصادية ذاتها، منذ سنوات والتي لم توصل إلا الى بلد مَدِينْ وشعب يدفع خدمة الدين العام بما يعادل عشرة آلاف دولار سنوياً، فلا يمكن السكوت عن واقع قد يهدد الكيان اللبناني مالياً واقتصاديا، بالرغم من الإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان وحاكمه رياض سلامة، والضوابط التي وضعها والحوافز التي شجع عليها، إلاّ أنها لا تكفي طالما الحكومة لم تغيّر سلوكها المالي والاقتصادي.
Leave a Reply