منذ فترة ليست بالقصيرة، تحولت “مؤسسة” القمة العربية إلى حالة اعلامية تعمل على تظهير ما تبقى من “هيبة” للنظام الرسمي العربي وستر آخر عوراته بورقة التوت السنوية التي لا تلبث أن تسقط بعيد مغادرة الوفود مكان القمة على أهازيج النوايا والالتزمات، التي لم تغن يوما أو تسمن من جوع الواقع العربي إلى نفض التكلسات التي التصقت بصورته وأفقدته كل مصداقية أمام أعين شعوبه أولا والعالم ثانيا.
فالنظام العربي بصورته القائمة أصيب بأمراض الشيخوخة ولم تعد تنفع معه كل عمليات التجميل، وافتقد الرؤية والوجهة الواضحتين في مواكبة عصر عالمي يتغير بوتيرة سريعة، لذا يعمل جرّاحو الواقع العربي المتردي على نبش الماضي ومحاولة العثور على صيغ وأشكال تساعد على اسنقاذ الصورة الباهتة واعادة الروح اليها.
وتتمثل ماساة الواقع العربي أساسا بالذهنية التي تسيطر على الثقافة الرسمية العربية والتي كانت ولاتزال ترى أن عملية التجديد والتطوير على أهميتها هي “خضوع” للخارج وأن المحافظة على الواقع الراهن تقع في باب البطولة والصمود.
وانطلاقا من تلك الثقافة المشوهة اكتسب النظام الرسمي العربي حصانة ضد الحداثة والتجديد لم تعد تنفع معها كل الأحداث الكبيرة التي شهدها ويشهدها العالم منذ سقوط الامبراطورية السوفياتية، وصولا الى مأزق النظام الدولي الراهن ومحاولات الخروج منه بوسائل وصلت في عقر دار الرأسمالية التقليدية الى حد اتخاذ اجراءات أقرب الى الاشتراكية، ولم تر فيها ما يعيبها لأنها لا تنطلق من عقد الخضوع والاستسلام، مثلما هي الحال مع الذهنية العربية المتجمدة عند خط “اللاتغيير” مهما كانت التداعيات والانهيارات في واقع تنخره في الأصل أمراض الفساد والاستبداد والتخلف عن ركب المسيرة العالمية.
ولقد فتحت فرصة تاريخية أمام العرب لمراجعة واقعهم إثر الغزو الأميركي للعراق وسقوط أحد أقوى وأكثر أنظمتهم تماسكا تحت جنازير الدبابات الأميركية في بغداد. وعوضا عن التفكير والتبصر في المستقبل ورسم استراتيجية انخراط في المعادلات الاقليمية والدولية قيد التشكل، لجأ قادة الأنظمة العربية التي تسارع الى ارسال وفودها الى القمم السنوية في احتفالية فارغة من أية مضامين، الى سياسة النعامة، وفضلوا دفن رؤوسهم في رمال الصحراء الليبية هذه المرة، و”سلاحهم” الأوحد بضعة مئات من ملايين الدولارات التي تكتظ بها خزائنهم “لأجل القدس”.
وللمرء أن يسأل قادة “قمة سرت” كيف تنقذون القدس بنصف مليار دولار، وأية خدعة للنفس تلك التي ينطوي عليها هذا الاعلان عن “دعم القدس” فيما حكومة اليمين الاسرائيلية تتحدى الادارة الأميركية في عقر دارها وتعلن عن عدم نيتها الخضوع لأية ضغوطات بشأن وقف الاستيطان في المدينة التي تعتبرها عاصمتها “الأبدية والموحدة” بينما يتعاطى قادة العرب مع قضيتها من منطلق “افتدائها” بالمال وكفى الله المؤمنين شر القتال؟
مشكور أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى على اقتراحه بوضع تصور لإطار تعاون اقليمي، يضع العرب على حافة خارطة اقليمية تتكون ملامحها يوما بعد يوم، ويقف العرب متفرجين على انخراط قوى مثل تركيا وايران في صنع مصائرهم وملء فراغ غيابهم عن ساحة التأثير حتى في داخل كياناتهم الوطنية المهتزة تحت وطأة الزلازل الدولية والاقليمية.
فها هي الأحزاب والقوى العراقية الفائزة في الانتخابات الأخيرة، لا تجد بدا من التوجه الى طهران لأجل أخذ مباركتها ودعمها لتشكيل حكومة جديدة، وحبر الاقتراع لم يجف بعد عن أصابع ملايين العراقيين الذين توهموا أن بامكانهم اخذ العملية الديمقراطية بأصابعهم، مع عدم التقليل من أهمية الإنجاز الانتخابي الذي واجه تحديات كبيرة، لتكون الكلمة الأخيرة في الشأن العراقي للجار الايراني الذي عرف كيف يحافظ على نفوذ نظامه الثوري الاسلامي في محيطه، وأن يثبت نفسه على خارطة موازين القوى الناشئة في المنطقة.
لقد بدا العرب في قمة سرت، وفي ضيافة “ملك ملوك أفريقيا” كمن يحاول تأجيل “اعلان وفاة العرب”، على قول الشاعر نزار قباني. وبدا اقتراح الرئيس اليمني بتأسيس “اتحاد عربي” كمن يقدم حبة اسبرين لمصاب بالسرطان، فلم يلق اقتراحه أكثر من “تنويه” من رئيس القمة الليبي في بادرة “جبر خاطر” فيما التزم القادة الآخرون الصمت، ولعلهم سخروا في قرارة أنفسهم من رئيس بالكاد يحافظ على لحمة شكلية في بلده المقطعة أوصاله والمهدد بالتشظي في أية لحظة.
ولقد أصاب الزعيم الليبي هذه المرة في توصيفه للواقع العربي عندما دعا القادة الى اعتماد ما تريده “الجماهير” لانها لن تقبل منهم أقل من اظهار ارادة وجود وتحد وعودة الى الذات من أجل الخروج من حالة التشرذم التي تعتري واقعهم منذ عقود. لكن مالم يقله الزعيم الليبي أن “الجماهير” لم تعد تؤمن بزعمائها منذ زمن طويل وهي جماهير مغلوب على أمرها وجرى تيئيسها من حلم التغيير، بحيث باتت أقرب الى تقبل حكم الأجنبي والمستعمر للتخلص من أنظمتها القمعية والمستبدة. وما شاهدناه في عراق ما بعد صدام حسين قدم نموذجا صارخا عن واقع الشعوب العربية الراهن.
هي “قمة المأزق العربي” بامتيا، في “سرت” الليبية ولم يكن لنا أن نتوقع أفضل مما أتته من “قرارات” لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
ولعل فضيلتها اليتيمة كانت استضافة الطيب التركي أردوغان الذي أعطى خطابه أمامها قيمة لانعقادها تجاوزت في “تركيتها” البليغة كل الكلام العربي الركيك الذي احترفه القادة العرب في المناسبة السنوية الوحيدة التي تعلن أنهم لايزالون “موجودين”. ومن لم لا يصدق فليسأل القدس الجريحة والمنتهكة مقدساتها عن مبلغ الـ 500 مليون دولار الذي تكرمت به القمة “لأجلها”!.
Leave a Reply