فجأة، في الأوطان، وفي المهجر، يبدأ الحديث عن “الدماء الشابة” مقابل الحديث عن “الخبرة” و”التجربة” و”الحكمة” و”التبصر”، وكل مرادفات الهرم والعجز والمناخ الديناصوري. ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الذكاء أو الحدس لنفهم بأنه سيتم استقدام عناصر من الشباب لتسلم مسؤوليات في مؤسسات اجتماعية أو سياسية أو غيرها، والتمتع بألقاب الرئيس ونائب الرئيس ومسؤول العلاقات العامة.. ألخ.
كما أن المسألة برمتها، لن تثير ذلك القدر من الاستبشار أو المفاجأة، أو الدهشة أو الاستغراب، فالطبخة معروفة من رائحتها، ومن مذاقها الذي اختبرناه طويلا وكثيرا. وكل ما يحصل.. أنه يتم التلطي والتستر وراء كلمات رنانة وتعابير جوفاء، لتبرير استقدام “الأولاد” الذين سيكملون مسيرة “الآباء” في المؤسسات والجمعيات والمنظمات (وهي مسيرات غير مشرفة على كل حال) التي أصبحت بمثابة “قبائل” و”عشائر”. ومنطق القبيلة معروف. يذهب “عمي الشيخ” ويأتي محله ابنه ليصبح “عمي الشيخ”. والواقع أن لنا “أعماماً” كثيرين، ولكن لا أحد يسند ظهورنا..
يعني الموضوع كله، طال عمركم، مسخرة في مسخرة. و”صب اكّهوة للضيوف.. يا ولد!”. فاصل السالفة هو “الدم” الحاكم. أما “الشباب” و”الهرم” فلا راد لقضاء الله. و”للدم” كما تعرفون في تراثنا وتقاليدنا مكانة هامة، تبذل له الأموال، وتحاك حوله الخرافات، وتؤلف له أشجار العائلات والسلالات، وتخاض من أجله الحروب والثارات، وتقام له المؤامرات والجبهات والأحلاف..
و”الدم”، يا وجوه الخير، نوعان: دم ثقيل، ودم ثقيل جداً، وأما “الدم” الخفيف فهو نادر، وهؤلاء الذين يمثلوننا ويديرون شؤوننا يشعرون أن “ثقل” دمهم، لزوم الأبهة والوجاهة، ويحرصون على التلاطف مع اصحاب “الدم” الخفيف، والمهضومين، لأنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أنهم لا يطاقون، ولكنهم يصرون على “قيادتنا” رغماً عنا، لأنهم الأدرى بمصلحتنا، والأعرف بدقائق الأمور..
ومن غير المهم، أن تتمتع “الدماء الشابة” التي ستدير مؤسساتنا وجمعياتنا بالخبرة والحنكة والتجربة.. فالوقت مايزال أمامها لاكتساب التجارب والتمرس بالمصاعب، ثم إن “الآباء” الخبيرين سيتدخلون في الوقت المناسب وسيضعون الأمور في نصابها. أما الأمور التي في نصابها، فلا تحتاج في الواقع الى كل تلك الفطنة والألمعية، لأن كل المسألة تتلخص في كيفية تلبية الدعوات، وتبادل التحيات، وتحضير ابتسامات، أو نظرات ذات مغزى، لالتقاط صورة، وترداد عبارات ببغائية صارت مرادفات للتهكم والسخرية، عن مد جسور الحوار بين الجماعات والثقافات، وجسر الهوة بين الشعوب، ودعم الثقافة والتراث العربيين، والانفتاح على المجتمع الكبير.. ألخ.
مسائل وأفكار ممجوجة، سنسمعها من قيادات “الدماء الشابة”، الذين لا يجرؤون في بيوتهم على مخالفة أمهاتهم.
والقيادات الشابة، كما هو متوقع، ستحافظ على مواقعها والقابها، وستقيم الحروب والمؤمرات والمناكفات للتشبث بصلاحياتها. ومع مرور الوقت، سيبدأون بالحديث عن “الخبرة” و”التجربة”.. ذلك أن تقدموا في العمر. وبعد بضعة سنين أخرى سيبدأون بالحديث عن “دماء شابة” جديدة بكثير من التواضع والتشاطر، ومرة أخرى لن يحتاج الأمر الى كثير من الذكاء أو الحدس أو الفطنة ليعرف أبناؤنا أن هؤلاء يحضرون لأبنائهم لاستلام “المسؤوليات الجسيمة” في المؤسسات التي يديرونها، وهكذا..
إذن.. أهلا بالبدو في الولايات المتحدة الأميركية.. وصب اكّهوة للضيوف.. يا ولد!
Leave a Reply