الحكومة اللبنانية أمام المطالب الاقتصادية والاجتماعية.. والشارع يتحرك ضدها
يتزامن الأول من أيار العيد العالمي للعمال، وهو أيضاً عيد للعمل والإنتاج، مع تحركات نقابية بدأت تطل في لبنان، وتأخذ طابعاً سلبياً في بعض الأحيان، وكان آخرها، الإضراب التحذيري الذي نفذه السائقون العموميون في كل المناطق اللبنانية، أطلقوا خلاله صرخة ألم من استمرار ارتفاع أسعار المحروقات، التي بدأت تلهب الأسعار في كل شيء، وتؤثر على القدرة الشرائية لدى المواطنين الذين يكتوون بالغلاء الذي يهدد بإفقار الناس وتجويعهم.
فحركة السائقين احتجاجاً على الزيادة المتصاعدة على المحروقات التي هي سلعة أساسية، ومرتبطة بها كل الدورة الاقتصادية، التي تبدأ من ارتفاع كلفة النقل، الذي بات يأخذ من الموظف صاحب الدخل المحدود، ثلث الحد الأدنى للأجور، إذا استخدم وسيلة نقل عامة، بمعدل مرتين في اليوم فقط، داخل العاصمة بيروت، وإذا تنقل بين المناطق، فإن أكثر من نصف الحد الأدنى ينفقه على النقل، الذي تتأثر بها كل شؤون الحياة.
لذلك كانت تظاهرة السائقين العموميين، وهي الأولى في سلسلة تحركات تحدث عنها الاتحاد العمالي العام، إشارة أولى إلى ما ينتظر الحكومة الغائبة عن السمع، وعن تنفيذ ما وعد رئيسها سعد الحريري، أن يقوم به في أولويات عمل الحكومة، وهو الاهتمام بقضايا المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الآن لم يظهر أن هناك اتجاه لديها، لإعطاء الشؤون الحياتية الاهتمام المناسب، وقد استهلكت من وجودها ستة أشهر، ولم تعط حلاً للناس من أزماتهم الكثيرة والكبيرة، تبدأ بالكهرباء التي يبشر وزير الطاقة والمياه أنها ستتفاقم هذا الصيف، ولا حل لها في المدى المنظور، والتي تستنزف الخزينة بحوالي مليار ونصف مليار دولار سنوياً، فيتراكم الدين العام وخدمته، وهو أمر لم يعد بمقدور الحكومة تجاهله، كونه يؤثر على الوضع الحياتي والاقتصادي، كما أن أزمة الكهرباء لا تحل بالخصخصة كلها، لأن هذا القطاع ملك عام ولا يمكن بيعه بمردود لا يطفئ سوى الجزء اليسير من الدين العام، ولكن هناك من يطرح خصخصة أجزاء منه كالجباية، التي أول من لا يدفع المستحقات هم المسؤولون والزعماء والشركات والفنادق الكبرى.
فإلى جانب ما يعانيه اللبنانيون من انقطاع الكهرباء وعدم الوصول إلى تيار دائم على مدى الساعات الأربع والعشرين، فإن مشكلة مياه تنتظرهم، إذا لم ينفذ برنامج بناء السدود الذي كان بدأ قبل عشر سنوات مع مطلع عهد الرئيس إميل لحود، ووضعت خطة من قبل المدير العام للطاقة والمياه المهندس فادي قمير، بدأت في “سد شبروح”، ولم تتواصل مع مشاريع السدود الأخرى التي وعد الوزير جبران باسيل بإطلاقها، قبل أن يقع لبنان الذي هو خزان مياه، تذهب هدرا إلى البحر، في العطش والجفاف.
فالكهرباء والمياه، وهما أساس البنى التحتية لأية دولة، إضافة بالطبع إلى الطرق والجسور فإن عدم توصل الحكومات المتعاقبة إلى وضع حلول جذرية لهما، يؤشر إلى أزمة سلطة، وأزمة رؤية في الحكم، وأزمة برنامج وخطة عمل للحكومات، كما أزمة مساءلة ومحاسبة يقوم بها مجلس نواب، الذي امتلك توكيلا ً من المواطنين، ليكون ممثلاً لهم في مراقبة أعمال السلطة التنفيذية، وفي سن القوانين التي تقيم الدولة العصرية الحديثة، وتحاسب الفاسدين وتنشئ إدارة جيدة، وتقدم كل التسهيلات إلى المواطينين.
من هنا، فإن الحريري وفي أولى حكوماته التي يترأسها أمام الامتحان، هو ومن معه من الوزراء الذين يمثلون الكتل النيابية الأساسية، وليس لديهم أي تبرير لعدم توفير المتطلبات الأساسية لدولة، لم تظهر فيها بعد البنى التحتية، بالرغم من صرف الأموال عليها ومرور عشرين عاما على انتهاء الحرب الأهلية مع إعطاء أسباب تخفيفية، لأنه خلال العقدين الأخيرين كان لبنان رازحاً تحت الاحتلال الإسرائيلي، وقاومه وأخرجه منه، حيث تعرضت بناه التحتية لاعتداءات متكررة، كان آخرها الحرب الإسرائيلية التي دامت 33 يوما صيف 2006.
لكن الحروب والاعتداءات الإسرائيلية، لا تعني استقالة الدولة من واجباتها، لتحصين المجتمع الداخلي وبناء صموده، وتـأمين كل ظروف الحياة، ولا يمكن التعاطي مع هذه المسائل الاجتماعية والاقتصادية بالاستخفاف، ودون وضع خطة صمود وتصدٍ، ولبنان في مواجهة مع عدو طامع بالأرض والمياه، يتحين الفرص ويتصيد الظروف العربية والإقليمية والدولية، للانقضاض على لبنان، ثأرا لهزيمته فيه، من مقاومة أثبتت قدرتها على تسجيل الانتصار وتحرير الأرض، دون دفع أثمان سياسية وأمنية، وتطبيع علاقات كما حصل مع دول عربية أخرى.
فلا يمكن وفي ظل مخاطر إسرائيلية دائمة وقائمة على لبنان، أن لا يقوم مجتمع اقتصاد مقاوم، وهذا ما تحدث عنه الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله الذي طرح أن تتضمن طاولة الحوار بنداً يتعلق بالوضع الاقتصادي، وقد جوبه اقتراحه بالرفض، لكن في الجلسة الأخيرة للحوار، أعلن رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، أن الاستراتيجية الدفاعية، هي البند الوحيد المطروح، ولكن تحته يمكن البحث في الاقتصاد والتربية والإنماء وغيرها من المواضيع، وأن بناء استراتيجية دفاعية، لا يمنع أن يكون الاقتصاد قوياً، أي أن لا يغرق لبنان في الديون، ويفقر شعبه، وتصبح المقايضة معه، وهي إعفاءه من الدين مقابل وقف المقاومة، وهذا ما تم عرضه على المسؤولين اللبنانيين، منذ مطلع التسعينات، وكان كلما انعقد مؤتمر اقتصادي مالي لمساعدة لبنان، كان المؤتمرون يطرحون ضخ المال مقابل نزع سلاح المقاومة، كما أن مشروع توطين الفلسطينيين، طرح على أساس، أن يعفى لبنان من جزء من ديونه وحتى منها كلها.
فازدياد الديون، وإفقار اللبنانيين، لم يأت من فراغ، بل هو مربوط بحل أزمة الصراع العربي-الإسرائيلي، وهكذا تم التعاطي مع مصر، التي خرجت إلى توقيع سلام مع إسرائيل لأن الشعب المصري تعب من الحرب، كما روّج الرئيس المصري انور السادات، فتم ربط المساعدات السنوية التي تصلها من أميركا، مقابل توقيع معاهدة “كامب ديفيد” ، وأن الأردن خطا الخطوة نفسها مع اتفاق “وادي عربة”، وكان الفلسطينبون ساروا على النهج نفسه، بـ”اتفاق أوسلو” الذي رسم دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وغير محددة الحدود والهوية، على أن تعطى مساعدات مالية، بعد ربط اقتصادها باقتصاد الدولة العبرية، مقابل تقديم صك براءة باعترافها بالكيان الصهيوني، وعدم المطالبة بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية، وأن لا يعود اللاجئون إلى ديارهم، وأن لا يتوقف الاستيطان الذي من دونه، تسقط “الدولة اليهودية” ديمغرافيا وتفرغ من الداخل، مع النمو السكاني الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948.
فالاقتصاد دخل كعامل أساسي على عملية التسوية، وفي لبنان، تم التعاطي معها منذ وصول الرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة عام 1992، على أنها المؤشر الأساسي في تقديم المساعدات والقروض والهبات، مقابل انخراط لبنان في علمية السلام التي كانت بدأت مع “مؤتمر مدريد”، وتزامنت مع وصول اللبنانيين إلى اتفاق في الطائف أنهى الحرب الأهلية، لكن بقي موضوع الإعمار بعد حرب مدمرة، الذي تم ربطه بتقدم التسوية في المنطقة، وكان استعجال من قبل الرئيس الحريري بالاستدانة لبدء الإعمار، لمواكبة السلام القادم إلى المنطقة، ليكون لبنان جاهزاً من أجل، استقبال الاستثمارات التي ستنهال عليه.
وكانت حسابات المراهنين على السلام تتساقط أمام ضربات المقاومة في الجنوب، التي كانت تحرره منطقة منطقة، حيث بدأ صراع بين لغة المساومة ومنطق المقاومة، الذي انتصر أخيراً لا سيما مع تفاهم نيسان 1996، والذي حصل بعد شن إسرائيل عدوان واسع على لبنان من خلال قرار اتخذه في مؤتمر شرم الشيخ لمحاربة ما يسمى “المنظمات الإرهابية” وفي طليعتها “حزب الله”.
وبعد الانتصار الذي حققته المقاومة في 25 أيار من عام 2000، ظهرت نظرية لبنان “هانوي أم هونغ كونغ”، وبدأ التركيز على ضرورة نزع سلاح المقاومة، وأن لا ضرورة للمقاومة بعد أن انتفت أسباب وجودها، وهو الاحتلال الذي ظل قابعاً في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا والجزء الشمالي من بلدة الغجر.
ومنذ ذلك التاريخ ولبنان يواجه هذه النظرية، حيث راجت مقولة ثقافة الحياة، بعد العام 20٠5، وشعار “بدنا نعيش” وكل ذلك تحت عنوان واحد، كيف ينتهي دور لبنان المقاوم، ليدخل في التسوية بعد الانسحاب السوري منه، ودخول قوى سياسية فيه، في المشروع الأميركي “للشرق الأوسط الكبير” الذي أسقطته المقاومة في تصديها للعدوان الإسرائيلي صيف 2006.
وما زال البعض يطرح إخراج لبنان من الصراع مع العدو الإسرائيلي، وليس من باب لذلك، إلا أن اللبنانيين تعبوا من الحرب، وأن لا مجال لترتيب وضع الكهرباء وإقامة بنى تحتية، وتحسين الوضع الاقتصادي، وترتيب فرص عمل وجذب استثمارات إلا بوقف المقاومة، وتقديم لبنان دولة منزوعة السلاح.
هذه النظرية التي تتقدم لدى البعض من الذين يناقشون في الاستراتيجية الدفاعية، عبر شعاره “حياد لبنان”، هؤلاء، ينتظرون حل الأزمة الاقتصادية- المالية بالمساعدات ورهن لبنان إلى الخارج ووضع قراره السياسي، بيد من يقدم المنح والقروض المالية.
وفي مقابل منظري السلام، فإن هناك من يطرح تحصين المجتمع باقتصاد قوي، حيث الدولة العبرية التي تحولت إلى ثكنة عسكرية، لديها أقوى اقتصاد في المنطقة، فعندها اقتصاد معرفة وآخر عسكري، وتجذب الاستثمارات التي تحميها من خلال قوتها التي بدأت تتبخر، مع ظاهرة صمود المقاومة في لبنان وفلسطين، وقد حقق لبنان نمواً اقتصادياً بلغ بين 7-9 بالمئة، وزاره مليونا سائح، وكل ذلك بعد الانتصار الذي حققته المقاومة في صيف 20006، حيث شهد الوضع الاقتصادي تحسنا منذ ذلك التاريخ، ولم تهرب الاستثمارات، لأن لبنان يمتلك قوة رادعة، فانتعشت الحركة العقارية، كما زادت الودائع في المصارف إلى سقوف غير مسبوقة، وبدأت الاستثمارات تتدفق على لبنان بسبب المجتمع المقاوم والصامد، ولم يعد الرأسمال جباناً، بل قوي مع وجود قوة ردع ضد إسرائيل واستقرار الوضع الأمني، الذي أمنه القرار السياسي عبر حكومة وفاق وطني.
فهذه القوة التي يمتلكها لبنان، كيف ستبني عليها الحكومة الحالية، التي لم تحرك ساكنا لتحسين الوضع الحياتي والخدماتي للمواطنين، وأول ما يجب أن تعمله، هو كيف توقف الهدر الذي هو كفيل، بأن يؤمن موارد للخزينة، دون التطلع إلى فرض رسوم وضرائب، لم يعد لدى المواطنين لا سيما أصحاب الدخل المحدود والعمال طاقة لتحملها، وكذلك الطبقة المتوسطة، بحيث تخرج وزارة المال برسوم وضرائب جديدة وهي التي مازالت على النهج ذاته، الذي اتبعه فؤاد السنيورة منذ التسعينات، وهو استسهال فرض الضرائب والرسوم، ما أدى مزيد من إفقار اللبنانيين، دون أن يعرفوا أين تذهب أموالهم، وهم لم يروا مشاريع ترفع من مستوى معيشتهم، وتأمين حقوقهم الاجتماعية، إذ يخشون انهيار وإفلاس الضمان الاجتماعي، كما هم قلقون على تقاعدهم، وهم خائفون على ضمانهم الصحي، في وقت تتراجع مدارسهم الرسمية، جامعتهم الوطنية اللبنانية، وكل ذلك أمام زحف القطاع الخاص، الذي يحل محل الدولة الراعية للمواطينين.
إن الحكومة الحالية أمام مسؤولية ترتيب أولوياتها، ووضع خطة إنقاذ اقتصادية- اجتماعية وإعلان حالة طوارئ خدماتية، والعمل على تخفيف الأعباء الضريبية عن الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، كما في تأمين فرص العمل. وإذا تلكأت عن ذلك، فإن التحركات النقابية تنتظرها، وأولى طلائعها السائقين، وسبقهم القطاع التربوي ومعهم المزارعين، وهؤلاء ستكون لهم حاضنة سياسية، هي جبهة وطنية يجري تكوينها من قوى وأحزاب وشخصيات خارج الحكومة، لتشكل جبهة معارضة فعلية وحقيقية، تحمل معاناة المواطنين، ومثل هذه الجبهة، هي حكومة ظل، ستكون جاهزة لتتقدم نحو تحمل المسؤولية، إذا ما فشلت الحكومة الحالية.
Leave a Reply