تقدم الانتخابات البلدية والاختيارية اللبنانية المزمع تنظيمها اعتبارا من 2 أيار (مايو) القادم في المحافظات اللبنانية تباعاً، مجموعة من المواقف والممارسات المثيرة للدهشة والطرافة.
ففي بلد يحرص سياسيوه على رسم الحدود والخطوط الحمراء بين كياناتهم السياسية التي باتت تقرب جدا من الكيانات الجغرافية المستقلة والمتجاورة، ويبذلون كل الجهود لإبقاء التعبئة الشعبية لدى “جماهيرهم” عند مستويات مرتفعة تضمن استمرارية لشعاراتهم المرفوعة، نجدهم يندفعون بحماسة لافتة الى محاولة التوافق البلدي أين ومتى أمكن الأمر في المناطق ذات الاختلاط “السياسي” التي تتنازع على النفوذ فيها تيارات سياسية متخاصمة، أو تلك “الصافية” سياسيا.
يحدث كل ذلك تحت تبرير “إبعاد المشاكل” العائلية والمحلية والمناطقية عن الناس.
بعض “المتفوهين” من أركان الطبقة السياسية اللبنانية لا يجدون حرجا في الإفصاح عن عدم أهلية الجماهير لخوض تجربة انتخابية محلية تتصل بشؤونهم الحياتية اليومية فيجاهرون بأن لوائحهم الجاهزة للانتخابات البلدية، تهدف الى منع المشاكل بين الناس، وهو القول الذي يعادله بلا تمحيص أو سوء نية اعتبار الناس التي سيقت في السنوات السابقة الى ساحات التظاهر المتقابلة مجموعات من الأميين والرعاع غير المؤهلين لاختيار أعضاء مجالسهم البلدية ومخاتير أحيائهم إذا تُركوا لأنفسهم!
والغريب أن الناس في لبنان تبتلع هذه الإهانة وترضى بما يقدره لها آلهة الطوائف ولا من يسأل هذا الطرف السياسي أو ذاك عن سر هذه المودة الطارئة عليهم وهذا العناق البلدي من فوق رؤوسهم، بينما لايزالون (الناس) يعانون من أعراض الأمراض المذهبية والطائفية التي ابتلاهم بها أولو الأمر منهم خلال سنوات الأزمة التي مر بها لبنان ولايزال يعاني من آثارها بصورة شبه يومية.
والمفارقة الطريفة تتجلى بذلك الإصرار على محاولة التوافق بين خصوم الأمس واليوم والمستقبل، باعتبار أن صيغة التوافق القائمة على المستوى “الوطني” حاليا، لاتزال صيغة تجريبية ومعرضة للاهتزاز والسقوط في أية لحظة.
بعض القوى السياسية في لبنان حاولت إبعاد كأس الانتخابات البلدية وعملت على تأجيلها تحت مسميات الحاجة الى الاصلاح قبل الانتخابات، وهذا بالطبع كلام حق يراد به باطل، طالما أن الاصلاح المزعوم سقط تحت أرجل نظام انتخابي نيابي يعود الى ستينات القرن الماضي شارك الكل في إعادة إحيائه، وأعاد إنتاج الطبقة السياسية ذاتها، وحقن النظام الطائفي البغيض بجرعة من الحياة تخدم مصالح السياسيين الطائفيين على حساب كل مصلحة وطنية.
يمكن القول بأن الانتخابات البلدية التي منّ السياسيون على جماهيرهم بتنظيمها قد انتهت قبل أن تبدأ.
ينطبق هذا الأمر على مناطق الجنوب اللبناني برمتها وعلى مناطق في جبل لبنان أعلنت وزارة الداخلية عن فوز 56 مجلس بلدي فيها بالتزكية!
وحده السياسي غير “الفصيح” الياس سكاف تمرد على أجواء “التوافق البلدي” في عاصمة الكثلكة في الشرق، مدينة زحلة، فكان موقفه أشد فصاحة من كل المتذرعين بالحرص على الهدوء لمصادرة خيارات الناس المحلية وهي آخر ما يمكن أن يحددوه في زمن التفاهمات الكبرى التي لا تقيم لهم أي وزن.
هل يجوز هنا التصفيق لهذا “الانجاز البلدي” أم على المرء أن يتساءل: من أجاز لأبطال الانقسام الوطني، حلفاء اليوم البلدي، أن يختزلوا تمثيل الناس في شؤونهم البلدية، بعد اختزالهم في الانتخابات النيابية؟ وهل يعفى الناس من مسؤولياتهم أمام هذا الاستهتار بتطلعاتهم نحو انتاج تمثيل محلي يعكس مصالحهم المباشرة؟
أغلب الظن أن مقولة “كما تكونون يولى عليكم” تنطبق على أحوال اللبنانيين الذين سلموا منذ أزمنة بعيدة رقاب تمثيلهم إلى آلهة طوائفهم وارتضوا بأقدارهم، في ظل مقولة “لا صوت يعلو فوق صوت الطائفة” التي رسخت في السنوات الأخيرة وأزاحت كل ما عداها خصوصا مقولة “الانتماء الوطني الجامع” التي باتت نكتة تتندر بها الأجيال اللبنانية “الصاعدة”.. الى الهاوية.
Leave a Reply