يبدأ شهر نيسان بكذبة، ربما تكون أصدق كذبة في السنة. لا أعرف يقينا لما خطرت ببالي شخصيتان أساسيتان بعينهما وأنا أشاهد زعماء دولة لبنان الكبير، بعد قاموا وقعدوا، وسعلوا وتنحنحوا، ثم اجتمعوا حول غداء عمل. يبدو أن الغداء كان ثقيلا، فاتفقوا واتحدوا على لعب مباراة كفريق واحد ضد لبنان وضد مواطنيه أبناء الستين كـ ..، الذين مازالوا مقيمين فيه ولم ينزحوا ويرحلوا عنه إلى بلاد الله الواسعة، فترتاح الحكومة من طلباتهم ويهدأ بال أصحاب المعالي والفخامة ليرفعوا معاشاتهم ويزوروا جوزاتهم وأولادهم في مصايف ومشاتي أوروبا.
الشخصية الأولى هي شخصية فنان ظريف، ابن بلدة كفرشيما، بلدة المشهورين في لبنان. هو أشهر من جادت به الأقدار. كان صاحب بصمة مميزة في الغناء والتلحين والتمثيل المسرحي، صاحب الضحكة الفريدة والمواهب والمزايا والألقاب العديدة: شيخ الملحنين وأطرف الممثلين وألذع الساخرين وعميد الصيادين وأظرف المتحدثين. لكن كان أحب الألقاب إليه هو “أكذب الكذابين”. إنه الفنان الراحل فيلمون وهبي.
أما الشخصية الثانية التي خطرت على بالي، والذي كان ينافس فيلمون على لقب أكذب الكذابين، فهو المطرب الكبير وصاحب الصوت الدافئ من حرارة جنوب لبنان، الراحل نصري شمس الدين.
كان الكذب، عند هذين الكبيرين عبثا ينبعث من الطبع اللطيف والظل الخفيف، في جو من المزاح والفكاهة وبعفوية صادقة بالتهاجي الضاحك بين الأصدقاء.
أتقن فيلمون في المسرح شخصية “سبع اللي بيخاف من الواوي”، وشخصية كبير “المهندزين يللي بدو ينهدز الطريق، قدام بيت عمتو وبيت خالتو، وبيت البنت المحظوظة اللي بدا تصير مرتو”!
ونصري أتقن شخصية الشاويش “أبو الشوارب يللي الله خلقو وكسر القالب”، وتعشقه كل الستات، لكنه يخاف من مراتو ويكذب عليها.
في واحدة من المباريات الزجلية العديدة، التي كانت تجمع الكبيرين وهبي وشمس الدين، قبل الثالث عشر من نيسان سنة 75، بدء حرب لبنان الكبير، قرر فيلمون وهبي وباتفاق مع جوقة المرددين حوله، قرر أن يخص نصري “بردة” زجلية تضع حدا لادعاء نصري بأنه أكذب الكذابين.
وصل نصري متأخرا الى تلك السهرة، المباراة، تحمس فيلمون وابتهج وبعفوية أنشد هذين البيتين:
نصري تا شرّف طوّل
وزمان الأول تحوّل
أنا الكذاب الأول
ونصري الكذاب الثاني
وردد الحضور وراءه بحماسة هذين البيتين، مما دفع نصري إلى الانتفاض احتجاجا، وقام وهمّ بالخروج من المكان احتجاجا على ادعاء فيلمون وهبي أنه هو الكذاب الأول. عندها سعى الجميع الى تهدئة وتطييب خاطره وطلبوا من فيلمون أن يعترف بالحقيقة ويصحح ما قال.
جلس نصري من جديد استئناسا لسماع فيلمون وهو يردد قائلا:
نصري تا شرف طول
وزمان الأول تحول
نصري الكذاب الأول
وأنا الكذاب التاني
فرح نصري وتغلبت عليه نشوة الطرب، فطاف على الساهرين واحدا واحدا يشكرهم على مؤازرته وتأييده لنيل لقب “أكذب الكذابين” ثم عانق فيلمون وأثنى عليه.
أطلق فيلمون ضحكته المميزة العابثة وقال على مسمع الجميع: هذه الردة التي قلت فيها نصري الكذاب الأول وأنا الكذاب التاني، هي آخر كذبة لي في هذا اليوم.
لو عاد فيلمون وهبي ونصري شمس الدين إلى الحياة وشاهدا المباراة التي جمعت زعماء لبنان في فريق واحد لا شريك له ضد مصلحة لبنان، بدون شك سوف يمنحنان لقب “أكذب الكذابين”، وبصدق، لكل لاعب في ذلك الفريق العريق في الكذب اللي على أصولو، موديل الألفين وعشرة.
وبأسلوبه الساخر الضاحك حتى المرارة، سوف يغني لهم فيلمون:
الزعما من بيت الفرفور
يا عالم ذنبن مغفور
لو قالو النحلة دبور
ما تقولن إلا Tres bien
الله يخليهن لـ نسوانن
والوطن Non، آخر همن
بالدنيا ما بيهمن
إلا يكون جيوبن مليان.
Leave a Reply