خبرٌ غيرعادي تسلل عبر جريدة “السفير” الوطنية الإسبوع الماضي لم يلتفت إليه أحد رغم أهميته الفائقة طبعاً لأن الوطن الذي “شبه لهم” مشغولٌ بالإنتخابات البلدية والإختيارية التي لا تساوي “شروى نقير”! الخبر هو فضيحة جديدة تضاف إلى سلسلة الفضائح الأمنية المشبوهة ليس آخرها مراقبة دولة أجنبية للحدود السورية-اللبنانية عند نقطة المصنع، وذلك تحت سمع وبصر حكومة “التوحد ( autistic) الوطنية” مما يدل مرةً أخرى على أن لبنان هو بلد التسيب والفوضى الأمنية والسياسية ومؤخراً على شاشة الحياة… الفوضى القضائية!
فضيحة جديدة ظهرت في عدد من المدارس الخاصة، لا سيما تلك التي تعتمد المنهاج الأميركي في الدراسة التي على ما يبدو أخذت قراراً آحادياً بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وتبرئته من كل جرائمه التي ارتكبها بحق الفلسطينيين واللبنانيين. كتابان جديدان يدرّسان في إحدى المدارس اللبنانية، عمد مؤلفاهما الى تحريف الوقائع والحقائق، لصالح اسرائيل، كما كانت الحال مع كتاب التاريخ بعنوان “تاريخ العالم الحديث”، الذي كانت تدرّسه إحدى كبريات المدارس في العاصمة، والذي كشفت عنه “السفير” أيضاً بالعام الماضي، لا سيما أن الكتاب يتهم حركات المقاومة بالإرهاب. المركز التربوي تفحص الكتابين فتبين له أن العملية ليست زلة غير مقصودة بل هي متعمدة. وجاء في تقرير المركز “أن وجود معلمين يتبنون أفكار الكتابين يعني ان هناك عملية مقصودة لغسل عقول أطفالنا وأولادنا وتشكيكهم بهويتهم الوطنية والقومية”. أهناك أخطر من هذا الأمر حتى بالمقاييس اللبنانية؟ انها ثقافة الهزيمة التي بدأها فؤاد السنيورة وتم تعميمها في ثكنة مرجعيون التي وزعت “شاي فتفت” بدل مقاومة الإحتلال.
غنيٌ عن الكلام المباح أن مادة التاريخ هي من أهم المواد الدراسية للطلبة وجيل “الإنترنت” المصاب بعوارض فقدان التركيز أكثر من٣٠ ثانية والذي ولد بعد النكبة والهزيمة ولم يذق مرارتهما مثل جيلنا وبالتالي لم يحس بضياع فلسطين ولكن، لحسن حظه، شهد عصر المقاومة وانتصارها رغم الأنواء والتحديات. هذا الشعب الفتي بحاجةٍ لأن يعرف أن تاريخ المنطقة وخصوصاً تاريخ لبنان مزور لأنه كتب بأيدٍ أجنبية وأقلام مؤرخي “أحصنة طروادة” الكيانيين الملكيين أكثر من أسيادهم الصهاينة أنفسهم! كم من اللبنانيين كانوا مدافعين شرسين عن الصهيونية حتى قبل زرع الكيان!
فالتاريخ هو بمثابة النورس الذي ينير درب السفينة في عرض البحر. فالذي يملك ناصية التاريخ وتراث الأمة يملك مفاتيح المستقبل! وفي مقال غير قديم لفتنا إلى حقيقة أن سمير جعجع كان يفضل حقيبة وزارة التربية على أي حقيبة أخرى وأسهبنا في شرح خطورة هذه الكارثة لو حصلت- أن تصبح مادة تاريخ لبنان في يد تيار “بشير حيةٌ فينا”. واليوم مع كتابي التاريخ الجديدين الموبوءين يتضح لنا لماذا يريد جعجع أن يسيطر على وزارة التربية الوطنية رغم قصورها وتقصيرها في واجب توحيد الكتاب المدرسي، وعلى نافوخه كتاب التاريخ هذا المطلب الذي “طلع على لساننا شعر”، كما يقول المثل العامي، ونحن نطالب بتحقيقه لأنه الباب الوحيد لبناء مقومات وطن ودولة واحدة عزيزة الجانب. كم بح صوت الوطنيين في لبنان وهم يصرخون بضرورة أن نقرأ من كتابٍ واحد؟ ثم ما هذا “الوطن” الذي تتعدد فيه الروايات التاريخية إلى درجة التناقض بين مدرسةٍ لا تبعد أحياناً عن المدرسة الأخرى عدة أمتار؟ هل تملك كل قبيلة الحق في تفسير وتبرير الأحداث التاريخية من منظارها الخاص؟ لكن ما العمل إذا كانت كتابة التاريخ وضعت من وجهة نظر المستعمر الأبيض الذي أراد أن يستمر نفوذه بعد رحيله، غير المأسوف على شبابه، ويسلم الدفة إلى مجموعة أمينة على مصالحه المتماشية مع ضرورة خلق كيان عنصري يكون ملكاً للطائفة المالكة فقط. لكن التطور السكاني والإجتماعي والإقتصادي والسياسي هبت رياحه على طول رقعة شطرنج “شبه الوطن”، وقال “كش ملك” فانقلبت الدنيا رأساً على عقب! ويسألونك ما بال الحروب الأهلية الأولى قل علمها عند مافيا المدارس والإرساليات الأجنبية والكتب المستحدثة المتغيرة كل عام نتيجة عدم تطبيق أبسط حقوق المواطنية بالتعليم الإلزامي المجاني!
لقد تبين بالأدلة القاطعة أن التاريخ الذي علمونا إياه في المدارس كان فقط تاريخ جبل لبنان لسبب طائفي وسياسي محض رغم ضم الأطراف “البغيضة” المقتطعة من سوريا وفلسطين لكي يقف الكيان اللبناني الجديد الضعيف على رجليه. ومنذ ذلك الإستقلال المزعوم، الذي للمناسبة لم يحصل بسبب بطولة بيار الجميل الجد وعضلاته المفتولة مع حزب النجادة و”حكومة بشامون” بل بسبب الصراع البريطاني-الفرنسي على النفوذ في الشرق الأوسط، بدأت حملة الحقد على الأطراف التي أكره أصحاب الكيانية على ضمها على مضض شديد فاخترعوا لنا مسألة الفينيقيين الذين إنحدروا منهم وتعلموا على أيديهم الشطارة والتجارة وفك حروف الحضارة وركوب البحار والهجرة والمخاطرة من أجل أن تنتسى المناطق المقتطعة “المقطوعة من شجرة تاريخية” ولا تذكر مسألة “العروبة” (باستثناء وحيد عندما خاف عليها البطرك لمدة ١٢ساعة عشية إنتخابات ٧حزيران المجيدة!) فظل لبنان البلد “ذا الوجه العربي” الوحيد بين اشقائه! لكن التمحيص التاريخي الموضوعي كشف فيما بعد أن الفينيقيين، الذين اتهموا عنوةً بإكتشاف حتى أميركا، كانوا مجرد “قرطة” قراصنة! ضيعان أوراق الكتب التي بخرت لهم ومجدت بهم حتى القداسة.
وإلى من لا يصدق أن تاريخ لبنان مزور لخدمة مصالح القبائل المالكة نحيله على الدكتور المؤرخ سعدون حمادة الذي وجد كنوزاً من الوثائق الرسمية وكشف عن ٨٤٥ وثيقة تقلب تاريخ البلد والتي سيكشف عنها قريباً في كتاب. ومما قاله د. حمادة أن لبنان كان للشيعة حتى عام ١٧٦٠ إلى أن اتفقت البابوية وفرنسا مع السلطان العثماني على إنشاء “دويلة مارونية” فبدأ عهد اضطهاد الشيعة وتهجيرهم بعدما كانت مثلاً كسروان بجميع قراها سكنها الشيعة والوجود المسيحي لم يتخطّ نهر ابراهيم كما أن الحاكم الشيعي كان هو من يثبت البطريرك وبإشرافه تتم مراسم تنصيبه وفارس شقير كان أول ماروني يسكن كسروان عام ١٧١٢ وأول كنيسة عمّرها الشيعة كانت في حراجل. والقنصل الفرنسي “بيكيت” كان أول من طرح فكرة دويلة مسيحية في منتصف القرن الثامن عشر، وسمعان السمعاني أول من سعى لتطبيقها. كما أن كل من كتب عن لبنان في القرنين الثامن والتاسع عشر تنبّأ بزوال الشيعة لأنهم بلا حماية خارجية. وأخيراً، وليس آخراً، معركة عنجر كذبة كبيرة وفخر الدين قاتل إلى جانب العثمانيين. فخر الدين هذا له صفة القداسة عند الكيانية اللبنانية بإعتباره “مؤسس دولة لبنان الحديث” رغم خيانته بالتعامل مع إمارة توسكانة الإيطالية سراً (فاللبنانيون بارعون في التعامل مع الخارج). كذلك كان إبن عمه بشير الشهابي مبجلاً في كتب تاريخنا العريق ووصف عهده باستتباب الأمن والإستقرار. طبعاً لم يذكر التاريخ أن السبب كان لأنه من الطغاة المجرمين الذين فتكوا بالناس لأتفه الأسباب! بشير هذا من المبشرين بجنة التاريخ لأنه، مع فخر الدين المعني “الكبير”، تنصرا سراً وانحازا غرباً. من هنا ولع كتاب التاريخ من الكيانية بهما دون غيرهم من ابطال لبنان الحقيقيين كحمزة وخنجر ويوسف العظمة وسلطان باشا الأطرش والسيد شرف الدين وعلماء نهضة جبل عامل والبقاع..
حتى التاريخ الحديث لم يخل من براثن المذهبية المنحازة! فالجريمة المروعة في كترمايا والرد عليها، لو أنها حصلت في قريةٍ أخرى ذات لونٍ لا يقرب مصر مثلاً، خصوصاً بعد يومٍ واحدٍ من حكم المحكمة المسيس هناك، لقامت الدنيا ولم تقعد حتى الآن ولحفلت الصحف بمئات الصفحات عن المؤامرة الجهنمية السورية-الإيرانية و”الهلال الشيعي”!
“أنا بعرفو تاريخنا أنا… ناطر كف من غيمه”!
Leave a Reply