مايزال البعض يردد كلما سنحت له الفرصة تلك الكليشيه القديمة التي كانت سائدة في سيتينات وسبعينات القرن الماضي، والتي تقول: “مصر تكتب، ولبنان يطبع، والعراق يقرأ”.
والحقيقة، أنه لا شيء في حياتنا يسقط بسبب التقادم، أو بعد العهد، كما يحدث في القوانين الجنائية على الأقل، والدليل أن القديم مايزال يعيش بيننا، ويسكن وجداننا وقلوبنا، تراثاً وأدباً وأمثالاً وحكايات وأخباراً وسيراً.. لأنها من إنتاج السلف الصالح. لذلك ما من أمل أن تتغير تلك المقولة وتحل واحدة أخرى مكانها، حتى ولو قال الواقع: إن المصريين منقسمون بين مجموعة تتذمر من أكل الفول والطعمية وأخرى تضرب عن أكل اللحوم احتجاجاً، والعراقيين منقسمون بين مجموعة تسمي الوجود الأميركي في بلادها تحريراً وأخرى تسميه احتلالاً، واللبنانيين منقسمون بين مجموعة تحب الحياة وأخرى لا تحب أولئك الذين يحبون الحياة، أو بين مجموعة تفضل مشاهدة الـ”أل بي سي” وأخرى تفضل مشاهدة تلفزيون “الجديد”.. لأنه محايد.
محايد؟ لا بأس. في لبنان الخيارات أكثر بالطبع كما هو واضح، وهجوم أهالي قرية كاملة على متهم وقتله والتمثيل بجثته ليس إلا أحد الخيارات الكثيرة المتاحة، في بلد كان يستقبل مخطوطات المصريين ويطبعها ويرسلها إلى العراقيين دون أن يفكر بقراءتها.. ربما. والعرب جميعهم منقسمون، بين مشجعين لقناة “الجزيرة” ومشجعين لقناة “العربية” ومختلفون، ولكن لا بأس. فالاختلاف كما تعرفون فضيلة، ولا بد أننا جميعا نقبل ذلك، مع أننا نتلعثم بعد كل اختلاف ونتعرق ولا نجد بداً من تذكير الآخرين بذلك القول: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية” الذي لا يعني إلا شيئاً واحداً وهو أن الاختلاف قد أفسد بالفعل للود عشرين قضية على أقل تقدير، وأن بإمكان أي اختلاف مهما بدا صغيراً أن يشعل حرباً أهلية.
والأحلى.. أن البعض يحاول إثبات العكس، خاصة حين يشعر أن الاختلاف قد أفسد الود.. والسهرة، فيتابع: “إن الاختلاف ضروري، لأنه لا معنى لأحاديثنا وجلساتنا إذا كانت لنا الآراء نفسها والمواقف نفسها.. وإلا فالقعدة ستصبح مملة بلا شك”.
ولهذا نحن نختلف من أجل “الأكشن”، لا أكثر ولا أقل، ومن أجل اختبار أخلاقنا الرياضية في بعض الأحيان، ومن أجل أن تحلو السهرة وتطيب الأوقات. ويصدق بعض الساذجين بأن الاختلاف جميل ولذيذ.. ورايق، وبأنه يحرك الأجواء، وينشط عضلات وجوه الساهرين الكسولة، فيصبح شخصاً اختلافياً من طراز أول، ويفاجئ أصدقاءه، ويختلف معهم جميعا، لأنه وبالصدفة لديه رأي مختلف، وفهم مختلف، من دون أن يعرف أن الآخرين سيسجنونه في قمقم يضم الآخرين من فئة “خالف تعرف”.
وسيحرقون حريشه، وينتفون ريشه، على الطالع والنازل، لأنه يخالف الجميع دوماً، ما عدا زوجته بالطبع، وسيقف بالمرصاد لأية وجهة نظر قد تكون عابرة في حديث جدي ومن الضروري الكلام فيه واستخلاص النتائج والعبر، وكل ما في الأمر.. أن أمثال هذا الشخص المخالف يعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم ضروريون لإضافة “النكهة” إلى السهرة. وشو النهكة اللي بتحبها بالأركيلة؟ أنا لا أدخن الأركيلة ولا أطيق رائحتها، وبيني وبينك أنا سعيد جداً بسبب قانون منع التدخين في المطاعم والمقاهي (وهو سعيد حقا، ولن يخبر أحدا بذلك، لأن زوجته كفت عن إرغامه على الذهاب إلى المقاهي لتدخن الأركيلة). ويستشيط الرجل الذي يخالف دوما غضبا: كيف تكون مع مثل هذا القانون وأنت تعرف أنه يمس بالحريات العامة؟ وتنفجر السهرة.. في صراع بين عشرة آراء لستة أشخاص أصدقاء من ربع قرن، ويعلقون جميعهم عند نقطة واحدة: ما هو تعريف الحرية؟ فيكون الجواب هل تصدق أن أميركا بلد حريات.. استفق يا أخ! وكما هو متوقع، يتفق الجميع أن الاختلاف لا يفسد للود قضية، وتنتهي السهرة وقد استقر كل واحد منهم على قناعة ثابتة.. بألا يعاود السهر مع أي منهم!
وكنت أريد في البداية أن أناقش مقولة (مصر تكتب، ولبنان تطبع، والعراق يقرأ) ولكنني غيرت رأيي كما تلاحظون، لأن أي اختلاف يأخذنا جميعا إلى حقل ألغام، وفي الواقع لست مختلفاً مع أي أحد حول هذه الفكرة، ورأيي: نعم.. أكيد بالفعل: مصر تكتب، ولبنان يطبع، والعراق يقرأ..
فأحياناً.. يبدو تصرفاً صحياً أن تكون مع التيار، لا ضده!
Leave a Reply