إن إحراق القدس هو إحراق للشرق الأوسط بأكمله،
وأن حريق المسجد الأقصى الذي أشعلته إسرائيل
في الستينيات لم ينطفئ الى الآن، وإن بلادنا لن تسمح بإنهيار المسجد الأقصى ولن تبقى صامتة إزاء ما يقوم به الإسرائيليون في غزة ورام الله وأريحا.
هذا الكلام الطيب لم يتفوه به زعيم عربي من الزعماء المحنطين على عروشهم وعروش ابنائهم من بعدهم، منذ عمر الخبز، وكأن كراسيهم “كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل”، لا تنفع إلا لهم من بين خلق الله أجمعين أو كأنهم أصحاب شركة احتكارية خُلقت لهم لا لغيرهم من دون الناس، لا ينزاحون عن السلطة إلا عندما يأتيهم ملك الموت وهادم الملذات! وهم لو ترك الأمر لهم، لا قدر الله، لأخذوا عروشهم معهم إلى القبور. كلا، هذا الكلام لم ينطق به لسان حاكم عربي ولا حتى “الغرينش” الأخضر الليبي، الثائر الدائم (دونكيشوتياً) حتى على… نفسه!
قائل الكلام الجوهري أعلاه يا كرام، ليس إلا العروبي الوحيد، للأسف في هذا الزمن العربي الرديء: رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا وأتاتورك بلاده الفعلي. يحق لهذا الطيب أن يتبوأ موقعاً رفيعاً في قلوب مواطنيه بسب تجديد وتصحيح صورة بلاده وإستعادة موقعها الطبيعي وتفاعلها مع محيطها العربي والإسلامي ومصالحتها مع تاريخها الذي إنتابه الكثيرمن الشوائب والشكوك، وتحويل بلاده إلى دولة إقليمية كبرى وفاعلة. كذلك يحق له أن يتربع على عرش قلوب العرب الأحرار بعد أن باعت أنظمة الردة والتخلف نفسها للشيطان مقابل الحفاظ على رؤوسها التي خلت من كل كرامة وشرف وناموس. ولكن المؤسف أكثر هو موت ما يسمى بالشارع العربي الذي بات يشرع لنظامه كل موبقاته وخيانته من دون أن يحرك ساكناً (أو حتى ضمةً أو فتحة). لقد حقق النظام العربي الرسمي المتقاعس والمتواطئ أكبر إنتصار في تاريخه، ليس على العدو مغتصب الأرض والعرض، بل على شعبه المسكين المستكين فخدره وطوعه ودجنه (وقولبه وشقلبه) وألهاه عن قضاياه ومشاغله الكبرى بالأمور الحياتية الضرورية وخلق له عداواتٍ وهمية كادت تتحول حروباً ضروساً بسب لعبة “كرة قدم”. وإلا كيف نفسر مرور ذكرى “النكبة” الكبرى في١٥ أيار(مايو) بضياع فلسطين للمشروع الصهيوني الإستيطاني العنصري، الذي يشكل خطراً على المنطقة برمتها لا على دولةٍ واحدة بعينها، وكأنها ذكرى تحضير أكبر صحن حمص لبناني في العالم؟! بل أن حرب، داحس والغبراء، وصحون الفلافل والتبولة المستعرة بين لبنان وإسرائيل لقيت إهتماماً أكثر مثلها مثل مباريات كرة القدم (ماعدا “لعبة” ساسة لبنان في ذكرى ١٣نيسان)، عبر التجاوب الشديد معها وسط المعجبين أكثر من أي حد أدنى من الشعور بحزن أو إحتجاج ولو بسيط في ذكرى خسارة أرضٍ عربية مقدسة وتدشين عصرالإنحطاط العربي.
بل الأنكى من ذلك أن الصفاقة من قبل حاكم عربي وصلت إلى حد تقديم التهنئة على “قيام دولة” إسرائيل! إيم الله هذا “إنجازٌ” غير مسبوق في تاريخ الحكام ونوم الشعوب (نوم أهل الكهف)، أن يبارك رئيس نظام ما لدولةٍ “كانت” يوماً عدواً لدوداً إرتكب المجازر بحق شعبه واحتل أرضه وما يزال يحتل ويقتل ويشرد أبناء بلدٍ شقيق! ولكن لم العجب؟ ألم يُدعَ بنيامين نتنياهو إلى مائدة إفطار في شهر رمضان المبارك؟ ألم يُدعَ الجزار نفسه للاحتفال بذكرى الزعيم جمال عبدالناصر؟ كل هذا يجري والنظام نفسه يحاصر أهل غزة بالأنفاق وجدران العزل عقاباً لهم على الدفاع عن أنفسهم كما فعل فؤاد السنيورة و”فتفته” مؤسس الإستراتيجية الدفاعية العظمى المتضمنة تضييف جنود الإحتلال أفخر أنواع الشاي!
فإذا كان هذا نصيب “ذكرى النكبة”، فتصوروا ذكرى “إتفاق الذل والعار”، إتفاق ١٧ أيارمن بطولة أمين الجميل! فقد أبرم هذا “الإتفاق” في مجلس الوزراء بمساعدة من شفيق الوزان المتعطش للسلطة (أتذكرون خطاب “امطري يا سماء”؟) الذي خلف أنظف رئيس وزراء عرفه لبنان، سليم الحص، عندما إختلف مع إلياس سركيس وفؤاد بطرس على توقيع مراسيم طائفية مجحفة آخر أيام الرئيس سركيس في السلطة التي كان مهووساً بتسليمها لبشير الجميل. كما وافق على الإستسلام مجلس نواب كامل الأسعد برمته، ما عدا ثلة قليلة من حرس الشرف الوطني من بينهم السيد حسين الحسيني. “١٧ أيار” أعطى إسرائيل “سلماً” ما لم تستطع تحقيقه حرباً أرادتها طاحنة عام ١٩٨٢ لتطويع لبنان بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية منه وتحويله إلى ما كان يطمح له الإستعمار القديم بإنشاء دولة مارونية حليفة لها، على رأسها بشير الجميل الذي قدمت ميلشياته لإسرائيل “خدمات جلى” خصوصاً أثناء حصار بيروت، حين كانت “القوات” تمنع، لدى معبر الحازمية، دخول الخبز وحتى حليب الأطفال إلى العاصمة الأبية (ثم بعد ذلك ترفع صوره في يوم أسود في قلب هذه العاصمة جنباً إلى جانب مع العميل عقل هاشم من قبل ثورة “البلح”!).
جاء أمين الجميل كجائزة ترضية للعائلة المالكة بعد مقتل شقيقه فعاث في الدولة فساداً وقضى فعلياً على العملة اللبنانية، درة تاج الإقتصاد الوطني، إلى أن قامت ثورة (وليس إنتفاضة) السادس من شباط لكي تعيد تصحيح الخلل. هذا هو التاريخ الذي يجب أن يدرس في مدارس لبنان: تاريخ ثورات العز والكرامة. وإذا كان شهر أيار يحتوي على ذكريات حزينة، إلا أنه أيضاً يمتلك أعظم تاريخ شرف العرب جميعاً ولوكره الجاحدون: ذكرى التحرير في ٢٥ أيار الذي منعه فؤاد السنيورة لكي يمحوه من الذاكرة الوطنية والوجدان القومي كأول إنتصار على إسرائيل وإجبارها على الإنسحاب مذلولة تحت وطء ضربات المقاومة من دون إتفاق “١٧ أيار” آخر! (شكراً سعد الحريري على إعادة إعلان ٢٥ أيار يوم عطلة رسمية).
مرة جديدة تبرز مبدئية وفروسية الطيب أردوغان في وقتٍ يتنصل أهل النظام العربي من عروبتهم وإسلامهم وقضيتهم المقدسة. فها هو يطير إلى طهران على وجه السرعة لكي يبرم إتفاقاً نووياً مع إيران والبرازيل مما يعزز دور كتلة قديمة-جديدة، “عدم الإنحياز”، التي كانت مصر عبدالناصر من مؤسسيها ثم لا ينسى أو يتجاهل تهويد إسرائيل للقدس الشريف. أما اليوم فقد تخلت مصر عن دورها وخسرت مع العرب الآخرين أصدقاءها التاريخيين، لا سيما في دول الجوار الأفريقي، ثم في دول عدم الانحياز وحتى الصين.
فعلاً كما قيل قديماً إن لم تستح افعل ما شئت!
Leave a Reply