مع إنكسارات العراقيين وإحباطاتهم في دول اللجوء يلتقط الفنان العراقي سلام القلعاوي صورا ً كثيرة للزمان العراقي الخابي الذي يجسمه نسيجاً ولكن بطريقة اكاديمية ومعرفية فيها الكثير من التفاصيل الحياتية التي تعزز مواضع الألم وأجواء الهم . أمه التي تركها وحيدة ً في جنوب العراق وبالذات في قلعة صالح وهو يحمل أمتعته البسيطة المتكونة من فرشاة وبضع لوحات وهو يشعر انه أمعن في متاهته. صوت الطائرات / وأزيز الرصاص / والخوف الذي دب في أجسادنا / والاضطهاد المزمن / كل هذا وُلد المنفى، وما بين ألم المنفى وقفزته الوجودية الخطرة تنهار بداخله كل أجهزة المناعة بفيروس الرسم. والقلعاوي أطلق سهمه في الغيمة الضائعة من خلال فرشاته التي لا تهدأ خفاياها اللؤلؤية وهويقدم الحقيقة باعتبارها شمساً.
والقلعاوي تهدرُ بداخله موسيقى حجرات عالم آخر باستمرار وهو مشدود نحو الوطن باعتبارألا يكون للمثقف أمتعة وهو صانع لوحته من خياله متأثرا بالواقع ومحتجاً بالممكن إذ لا يجد بين يديه سوى فرشاته المعبرة وهومحكوم عليه أن يجد موضوعاته المعبرة بواقع قائم على قوتين متتابعتين لاغنى عنهما لمواصلة الفهم وأن يشرك ذاكرته المعرفية ويملأ البيانات التي قد تتراءى له هنا أو هناك.
والقلعاوي أخذ مفرداته من مجتمعه وهو التواق الى التجديد عبر رؤى وأفكار وغالبا ما تعدد عنده المعالجات في مجمل المواضيع وهو راصد لحالات تسجيلية كما أقتضاه الواقع من حيث الظروف السياسية والاقتصادية والدينية فهو كعين الكاميرا الفوتوغرافية موثقاً لمجمل الشخصيات التي كان وزنها الاجتماعي والسياسي والديني. وان العمل الفني لدى العديد من المبدعين هو ثمرة صيرورة نظام تترابط فيه التجارب الشخصية والوقائع والقيم والدلالات وتتجسد في جهاز لتشكل شيئاً واحداً معه لما يعطي لتجربته الجمالية ابعادا ً ذات مضامين تشكيلية، ولهذا تجد في معظم أعماله الارهاصات النفسية التي تشكلت عبر جولات مكوكية إنطلقت من بلده العراق مروراً في ايران وسوريا ولبنان واخيراً في بلد الرأسمالية اميركا التي انصهرت فيها العديد من التجارب الابداعية عبر تاريخها وظل مرتبطا ً مع ذهنه بحصيلة ذكريات، وحسرات، ورغبات، وهو المنفي الذي يشخص المكان اللامحدد الذي يسمع عنه لأول مرة والذي يثير في ذهنه مكاناً تخييلياً وكأنه دخل سراديب الف ليلة وليلة وعندئذ تكون له الأمكنة محفزا تدفع به نحو الأفق لتشاركه الذكريات والمشاعر، وستقوده الى طقوس عجائبية مثل “ملكة الليل” أو “الثور المجنح” أو “الحلم” وامكانية التنويع التي استخدمها في معظم رسومه من خلال مشاركاته في المعارض منذ أن وطأت قدماه في أرض الاغتراب ليست غريبة محاولاً بذلك إظهار الاهتمام بشخصيته التي لفها التواصل الخصوصي الذي يمكن وسمه بـ”الجمالي” بالمعنى الواسع للكلمة. وكما يقال “ان الدراسة الخصوصية للأشكال لا تناقض في شيء المبادئ الضرورية للشمولية وللتاريخ بل على العكس من ذلك”.
وهذه التساؤلات التي اطلق النار عليها من خلال حدسه الذي عمّقه عبر علاقاته المكوكية بنخبة من مبدعي القصة والرواية واللوحة التشكيلية وهم جمال الساعاتي، وعدنان نعمة، وصباح المندلاوي، وعدنان الصائغ، ومحمد مظلوم، وباسم عبد القهار، وبهاء الدين البطاح، ومحسن العقابي نتج من هذا كله إنتصار الأرض والتاريخ على سيف الموت والتسلط. كل هذا جسّده في لوحاته وخاصة لوحته الاخيرة التي تحمل عنوان “عراق الرافدين” كفلسفة فنية جادة من خلال الانسان العراقي المثقل بالمتاعب وشموخه. ويظهر لنا في اللوحة وقد حمل الصليب بيد والراية العلوية الحسينية باليد الاخرى تحيطهما اشلاء الجماجم من كل مكان وكأن الارهاب يداهم ابناء جلدته من كل صوب وحدب وكنتيجة قهرية لشواء السوط على جلودنا.
وبهذا يجسد القول “إن اللوحة للجميع” وهي وسيلة للتواصل من بين وسائل ابداعية اخرى يتعانق فيها الخيال بالعقل وأن هناك امكانية اخرى للتأويل وكما يهدم “دريدا” كل التقسيمات الثنائية القائمة على التمايز التي تحيل الفكر الى طوابق الخير / الشر / الواقع / الحلم / الرجل / المرأة / الدال / المدلول تلك المفاهيم التي لايمكن تفسيرها الا بهدم المقابل واسقاطه عنه، وإطلاق العنان لبينوية جديدة قائمة على إنزياحات الأنساق المستهلكة التي يحاول أن يخلق منها بنىً جديدة ذات لغة جمالية تشتبك فيها عناصر ومفردات الشكل الفني لينتج لنا معان جديدة ضمن سياق مرئي قادر على إستنطاق أدوات التفاعل الحسي لدى المتلقي. ويمضي القلعاوي في رحلة بحثه عن الجمال بين الفضاءات المختلفة عله يخرج لنا بجديد آخر يعكس شيئا ًمن واقعه الإنساني.
Leave a Reply