السياسة حضرت بقوة والإنماء جاء أخيراً في سلم الاهتمامات
نجح لبنان في اجتياز استحقاق الانتخابات البلدية والاختيارية في موعده القانوني، بعد ان كانت رهانات ومواقف قد صدرت، وضعت احتمالات أرجائها بفرضيات لم تتبين صحتها، لجهة الوضع الأمني والتهديد الاسرائيلي بعدوان الى انتظار صدور قانون جديد مع إصلاحات الخ…
حصلت الانتخابات على القانون القديم، البعيد عن النسبية والكوتا النسائية واللائحة المقفلة، وهي البنود التي كان وزير الداخلية زياد بارود ضمنها التعديلات التي ادخلها على القانون الحالي، في اتجاه إجراء إصلاحات عليه، بما يضمن تمثيل أفضل، ويحرر الانتخابات من قيود تأسر الناخب فيها.
فقانون البلديات مدني بامتياز قياساً على قانون الانتخابات النيابية، الذي يوزع المقاعد على الطوائف والمناطق نسبياً، حسب أعداد الناخبين واعتمد المناصفة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين تحت عنوان الحفاظ على صيغة العيش المشترك، وهو ما لم يلحظه قانون البلديات، الذي لا ذكر فيه للطوائف والمذاهب والعائلية وما دون العائلية الى الاجباب والأفخاذ، لكن الممارسة من خلال الأعراف شوّهت القانون وأفرغته من مضمونه المدني، وبات العرف أقوى من القانون، وهو يحترم أحيانا ولا يحترم في أحيان كثيرة، وهو ما حصل في هذه الانتخابات.
فلقد جرت الانتخابات التي أدارها وزير الداخلية زياد بارود بحيادية، اعترف له بها الجميع، وسجل رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان انجازاً لعهده، ان يجري هذا الاستحقاق في ظل الاستقرار الأمني، وابتعاد السلطة عن التدخل، وهو ما يعطي ثقة بلبنان، بدأ ينعكس إيجابا على قدوم السياح إليه، والذي بلغ عددهم العام الماضي حوالي المليونيين، ادخلوا الى الدورة الاقتصادية نحو سبعة مليارات دولار، مع وعد رسمي ان يكون هذا العام أكثر إقبالا من العام الماضي.
فكل الإجراءات الإدارية اللوجستية والأمنية تأمنت للعملية الانتخابية التي مرت بأربع مراحل توزعت على المحافظات الخمس، من مطلع أيار حتى نهايته، وطغى عليها في كل مكان طابعاً معيناً، واختلطت العوامل السياسية بالعائلية، كما ان التحالفات السياسية، كانت متناقضة ولم يبرز فيها وجود لما يسمى 8 أو 14 آذار، أو معارضة وموالاة، ودخل التوافق في بعض البلديات، ليخرج من بلديات اخرى، مما افرز خلطاً للأوراق، ولم يعط لهذه الانتخابات عنواناً واحداً، بالرغم من ان كل الأحزاب والتيارات السياسية تحدثت عن ان الانتخابات البلدية إنمائية الطابع، لكن عند فرز النتائج، كانت تخرج ببيانات تعلن فوزها بهذه البلدية أو تلك، أو دعهما لهذه اللائحة أو تلك، حتى غابت عند المواطن اللبناني العناوين الحقيقية لانتخابات تتعلق بسلطة محلية، وإدارة لشؤون المواطنين، الى ربط الفوز ببلدية في بلدة نائية، بعوامل وتطورات إقليمية ودولية.
فالأحزاب والتيارات السياسية، سعت من خلال هذه الانتخابات ان تستفتي المواطنين حول طروحاتها السياسية وان تثبت ان شعبيتها لم تتأثر، وهو ما سيّس هذا الاستحقاق كما غيره من الاستحقاقات في الانتخابات النقابية والقطاعية، لذلك أخذت هذا الاهتمام السياسي والشعبي، إضافة الى الحدة في بعض البلديات، التي سميت الانتخابات فيها بأم المعارك لا سيما في المناطق ذات الكثافة المسيحية مثل زحلة التي فازت فيها اللائحة المدعومة من رئيس الكتلة الشعبية ايلي سكاف، واستعاد زمام المبادرة، بعد النكسة التي أصيب فيها العام الماضي في الانتخابات النيابية، الى جبيل التي شهدت أيضا معركة حاسمة استعاد فيها آل حواط حضورهم السياسي والشعبي في المدينة ضد “التيار الوطني الحر” الذي خاض معركته بالوزير السابق جون لوي قرداحي الذي شغل منصب رئيس البلدية، ولعائلته حضور سياسي، وكذلك كانت المعركة حامية في الحدث التي ربحها “التيار الوطني الحر” وخسر مع حلفائه في دير القمر التي اخترقها بخمسة مقاعد، وهو فاز في جزين وقضائها، وفي مدينة البترون وساحلها، ولم يقترب من جرد البترون الذي كان من حصة الوزير السابق بطرس وحلفائه، فيما سجّل رئيس “تيار المردة” النائب سليمان فرنجية، انتصاراً كاسحاً في زغرتا وقضائها، وفاز مع حلفائه في “الحزب السوري القومي الاجتماعي” و”التيار الوطني الحر” في اكثرية بلدات الكورة، التي خسروا فيها بلديات أساسية ككوسبا وكفرعقا ودده وكفريا، فيما ربح القوميون عاصمة القضاء أميون، في حين اكتسحت “القوات اللبنانية” بشري وقضاءها، وفاز النائب ميشال المر في بلديات أساسية في المتن الشمالي متحالفاً مع “التيار الوطني الحر” في بعضها ومع “الكتائب” و”القوات” في اخرى، وكان الرابح الأكبر في المتن، إذ أعيد انتخاب كريمته ميرنا رئيسة لاتحاد البلديات.
ففي البلدات المسيحية، سجل “التيار الوطني الحر” نجاحاً لا بأس به، كرّس نتائج الانتخابات النيابية، للعام 2009، ومثله “تيار المردة” والنائب المر، ولوحظ عدم حضور فاعل لـ”الكتائب” و”القوات” في أقضية جبيل وكسروان، مع إثبات وجود كتائبي في المتن الشمالي، والتحاق القواتيون في بعض اللوائح التوافقية.
هذا في الجانب المسيحي، الذي اظهر “التيار الوطني الحر” حضوره في البقاع الغربي أيضا، الذي تراجع فيه “تيار المستقبل” إذ أصيب بنكسة لخسارته عدداً لابأس به من البلديات لصالح قوى المعارضة الممثلة بـ”حزب الاتحاد” الذي يرأسه الوزير السابق عبد الرحيم مراد والنائب السابق ايلي الفرز لي وحلفائهما، حيث فازوا ببلديات أساسية في جب جنين عاصمة القضاء، وبلدات اخرى، مما أعاد رئاسة اتحاد البلديات الى خالد شرانق رئيس بلدية جب جنين.
والانتكاسة التي أصابت “تيار المستقبل” في البقاع الغربي، حاول التعويض عنها في صيدا، بعد ان سجلت بيروت بوجهه اقل نسبة اقتراع، ولم يعطه السنة سوى 47 ألف صوت، في وقت سجلت المعارضة السنية التي خاضت المعركة متفرقة نسبة تأييد بلغت 35 بالمئة من السنة، ونالت 18 ألف صوتاً، وقد خاض التنظيم الشعبي الناصري برئاسة اسامة سعد، معركة سياسية في وجه المال والسلطة كما أكد، ونجح في تسجيل موقف سياسي وشعبي، بعد ان أسقط “المستقبليون” التوافق الذي سار فيه سعد بعد طرح اسم المرشح محمد السعودي، الذي عاد وانصاع لرغبات وطلبات آل الحريري، لإخراج التنظيم الناصري منه، بفرض أسماء عليه، ولإحراز انتصار يعوض خسارة البقاع الغربي نسبياً وعدم الإقبال الشعبي البيروتي.
ففي وقت نسف “تيار المستقبل” التوافق في عاصمة الجنوب، سار فيه في عاصمة الشمال، ودخل الرئيس عمر كرامي الى المجلس البلدي بسبعة مقاعد لرئيس بلدية على مسافة واحدة من الجميع، وهو لم يحصل في عكار، التي تقدمت المعارضة السابقة في هذا القضاء وفازت بمركزه حلبا، إضافة الى بلديات اخرى لا سيما في جرد عكار، وبعض ساحله، وحصلت معارك أيضا في بعض بلدات القضاء المسيحية، حصد “التيار الوطني الحر” فوزاً فيها مع حلفائه لا سيما في منيارة وشدرا وعندقت، وخرق لائحة النائب هادي حبيش في القبيات بثلاثة مقاعد، ولم تعط عكار “تيار المستقبل”، وهي خزانة البشري، ما كان يأمله، إذ ان المناخ الشعبي في الاقضية ذات الكثافة السنية بدأ يتحول، ويتجه نحو المعارضة وأحزابها وشخصياتها، يعد التحول الذي جرى داخل قوى “14 آذار”، وعودة التحالف مع سوريا وتأييد المقاومة حيث سقطت الشعارات السابقة ضدهما، ولم يعد الخطاب المذهبي يفعل فعله، كما ان تأثير المال السياسي تراجع، وبالرغم من ان محاولات لاستخدامه جرت في بعض المناطق، لكن ظهر رفض شعبي له، حيث سجلت في قضاء المنية–الضنية اللوائح التي دعمها النائب السابق جهاد الصمد فوزاً في بلدات سير الضنية وبخصون والسفيرة، وخسر النائب احمد فتفت في بلدته سير الضنية، كما فشل “تيار المستقبل” في أكثر من منطقة.
فتراجع “تيار المستقبل” ظهر واضحاً في المناطق السنية كما في بعض القرى الحدودية مثل شبعا والهبارية، وكفرحمام، وانسحب من المعركة بعد ان ظهرت عائلات توالي التيار ضد بعضها، كما لم يحرز “تيار المستقبل” التقدم الذي كان ينشده في إقليم الخروب إذ شاركه الحزب التقدمي الاشتراكي والجماعة الإسلامية بالفوز في عدد من البلديات في شحيم وبرجا وفربود وغيرها.
وفي الجانب الشيعي، فقد استطاع “حزب الله” وحركة “أمل” من تحقيق تحالف انتخابي بينهما بعد ان كانا يتواجهان في الانتخابات البلدية السابقة، على عكس النيابية، لكن في هذه الدورة، وفي ظل التهديدات الإسرائيلية، قررت قيادتا التنظيميين، التحالف لمنع الانقسامات في القرى والبلدات وتمكنتا من تحقيق فوز شبه شامل في جميعها بقاعاً وجنوباً وجبلاً، وقد حاولت أحزاب وعائلات خرق التحالف، وتمكنوا من ذلك في اللبوة (البقاع الشمالي)، وبعض البلديات والاختيارية الجنوبية الحدودية.
وفي الوضع الدرزي، فان المصالحات بين قياداته فرضت التوافق في البلديات، وهذا ما انسحب على الجبل وحاصبيا، وبعض قرى راشيا، فتشكلت لوائح مدعومة من “الحزب التقدمي الاشتراكي” و”الحزب الديمقراطي اللبناني” و”الحزب السوري القومي الاجتماعي” و”تيار التوحيد” و”حركة النضال اللبناني العربي”، وهذا ما حصل في المدن الأساسية مثل الشويفات وعاليه وبيصور وقرنايل وحاصبيا وبعقلين، وهذا التوافق لم يسر على مدينة راشيا التي خسر فيها رئيسها السابق زياد العريان بفارق خمسين صوتاً في مواجهة مروان زاكي المدعوم من الاشتراكي، كما ان في بعض البلدات خرج الاشتراكيون والجنبلاطيون، على قرار رئيسهم وليد جنبلاط، وقفزوا فوق التوافق، في مجدلبعنا وعين عطا ومزرعة الشوف وكفرمتى وغيرها من البلدات، وهو ما دفعه الى حل فرع عين عطا واتخاذ إجراءات تأديبية بحق بعض الأعضاء، الذي لم يخالفوا التوافق الدرزي فقط، بل تعرضوا للمصالحة الدرزية–المسيحية، وابعدوا أعضاء مسيحيين عن مجالس بلدية.
هذه الخلاصة لشهر من المعارك البلدية، أظهرت حجم القوى السياسية التي كان الإنماء لا يعني لها شيئاً بل الحضور السياسي.
Leave a Reply