ليس غريباً عن إسرائيل أن تقدم عن سابق تصور واصرار على ارتكاب مجزرة بحق المتضامنين مع غزة، وعلى متن احدى سفن “أسطول الحرية”، التركية بالتحديد. فاسرائيل بطبيعة تركيبتها ونشوئها تبقى مشروع جريمة دائمة بحق محيطها الذي لا ترى فيه سوى ساحة لتوجيه رسائلها الدموية كلما شعرت بأن هيبة ردعها عرضة للمساس ولو على أيدي مواطنين عزل من أي سلاح، وينتمون الى اكثر من 40 دولة من مختلف أقطار الأرض. لنا في المجازر التي ارتكبتها دولة الكيان الغاصب بحق الشعوب العربية منذ قيامها على ارض فلسطين أمثلة لا حصر لها، وتكفي نظرة سريعة على الحروب التي خاضتها لندرك أن اسرائيل كانت تفتتح أو تختتم كل حرب بمجزرة ضد المدنيين العزل، من دير ياسين الى مدرسة بحر البقر وصولا الى قانا الأولى والثانية وما بينها الكثير من “المنجزات الدموية” بحق الأطفال والنساء والشيوخ على امتداد الجبهات العربية.
واسرائيل التي لاتزال تعيش تداعيات هزيمتها المرة في لبنان واندحار جيشها في العام 2000 ثم اخفاقها المدوي في اعادة الهيبة الى هذا الجيش خلال عدوان تموز العام 2006، عادت الى ممارسة الوحشية والغطرسة، هذه المرة ضد نشطاء سلام أرادوا نصرة مليون ونصف مليون انسان فلسطيني محاصرين في قطاع غزة في واحدة من أبشع صور الحصار، إن لم تكن أبشعها على الاطلاق، في التاريخ الانساني المعاصر.
هذه المرة ارادت اسرائيل بقياداتها السياسية والعسكرية توجيه رسالة دموية الى تركيا والدور المتنامي الذي تضطلع به منذ ارتقاء “حزب العدالة والتنمية” الى سدة الحكم في بلاد أتاتورك. وهو الدور الذي توجته حكومة رجب طيب أردوغان بالاتفاق الثلاثي مع كل من البرازيل وايران لتبادل اليورانيوم الايراني فوق الأراضي التركية في جهد أزعج حكومة اليمين الاسرائيلي الساعية على مدار الساعة لتوفير ظروف توجيه ضربة عسكرية الى المنشآت النووية الايرانية أو فرض عقوبات قاسية على النظام الاسلامي الايراني تمهد لتلك الضربة.
ولقد بدا واضحا أن القرار الاسرائيلي بمهاجمة “أسطول الحرية” في أعالي البحار استهدف بوحشيته وعنفه الدموي سفينة “مرمرة” التركية التي ضمت بصورة أساسية متضامنين أتراك سقط منهم تسعة شهداء، كرد غير مباشر على الوساطة التركية في مسألة الملف النووي الايراني التي كانت بانتظار الرد الأميركي النهائي على الاتفاق الثلاثي حول تبادل اليورانيوم، وهو الرد الذي لاتزال الادارة الأميركية تماطل في تقديمه، بغية العودة الى نقطة البداية واستعادة أجواء العقوبات والحرب التي لا يريد القادة الاسرائيليون بديلا لها.
ويمكن القول إن عملية القرصنة الاسرائيلية في مياه المتوسط مثلت انذارا الى تركيا الاسلامية بأنها تعدت الخطوط الحمراء في وساطتها حول الملف النووي الايراني، وحولت الجهد التركي من متابعة مسألة الاتفاق مع الادارة الأميركية نحو متابعة ذيول المجزرة الاسرائيلية ضد “أسطول الحرية” الذي لا تخفي الحكومة التركية دورها الأساسي في الاعداد له وفي انطلاقه في محاولة لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة.
ثمة مؤشرات على أن “حكومة العدالة والتمنية” الاسلامية في انقرة قد تلقت “الرد الأميركي” على وساطتها الإيرانية عبر رد فعل الادارة الأميركية على القرصنة الدموية الاسرائيلية في المتوسط والذي خذل التوقعات التركية، بتغطية شبه كاملة للهجوم الاسرائيلي على سفن “أسطول الحرية” والتدخل الاميركي الذي عدل من لهجة بيان مجلس الأمن في ادانة الهجوم، عندما جرى تضمينه عبارة “أعمال عنف” على متون السفن في اشارة الى مسؤولية لنشطاء السلام فيما حصل، وهو ما يبرر على نحو غير مباشر الهجوم الاسرائيلي ويجنب اسرائيل بالتالي أي ادانة ذات طابع قانوني دولي على جريمتها الدموية الموصوفة بحق نشطاء السلام الأتراك والعرب والدوليين.
ثمة مؤشرات الى توجه الدبلوماسية التركية الى الانكفاء الى ما وراء الحدود التي رسمتها الادارة الأميركية للدور التركي في المنطقة والتي قامت البحرية الاسرائيلية بالتذكير بها هذه المرة في استعراض للقوة يصعب التصديق أنه لم ينل موافقة أو غض نظر من الادارة الأميركية التي بدا من الواضح انزعاجها من انفلاش الدور السياسي التركي ومحاولة احتلال هامش أوسع من العمل باستقلالية عن التوجهات الأميركية.
أحد هذه المؤشرات كان التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، واستهله بالقول “نحن دولة حليفة لإسرائيل، وعليها أن تفرج عن المعتقلين الأتراك خلال ٢٤ ساعة وإلا فإننا سنعيد النظر بعلاقاتنا معها..”.
وبعيدا عن حملات الادانة والاستنكار التي أثارتها القرصنة الاسرائيلية في الشارعين العربي والأوروبي، فضلا عن الرأي العام الاسلامي وفي قلبه ملايين الأتراك الغاضبين لدماء مواطنيهم التي سفحها الارهاب الاسرائيلي على متن السفينة التركية “مرمرة” وهي حملات لم تعتد اسرائيل أن تأبه بها اصلا، فان الاعتقاد الغالب أن اسرائيل بكامل قياداتها السياسية والعسكرية لم تكن لتجرؤ على ارتكاب هذه المذبحة لولا يقينها بأنها سوف تفلت من أي عقاب دولي ودائما بدعم واحتضان أميركيين.
أما الثمن الذي قد تدفعه اسرائيل لقرصنتها الدموية فقد لا يتعدى استعداداً لتخفيف الحصار على غزة وهو ما ألمح اليه بنيامين نتنياهو في خضم هجومه الإعلامي المضاد لإعادة تلميع صورة دولته أمام الرأي العام الدولي.
ثمة اعتقاد ايضاً، أن اسرائيل قد شرعت بالفعل في حربها العسكرية والسياسية بعد اتمام مناورات الدفاع عن جبهتها الداخلية، مستهلّة هذه الحرب باستهداف “الجبهة التركية” التي ترى اسرائيل أنها باتت توفر غطاء سياسيا لمثلث أعداء اسرائيل المتمثل في ايران وسوريا و”حزب الله” اللبناني، ولإيصال رسالة الى هذه المثلث أن قرار الحرب قد استنفد كل الاستعداد المطلوبة وأن عملية المتوسط ضد سفن “أسطول الحرية” هي آخر فصل من فصول المناورات على كل الجبهات.
يبقى أن مبادرة “حرية غزة” التي نفذها مئات من النشطاء الشجعان وكلفت دماء تسعة منهم، قد نجحت في التذكير في قضية مليون ونصف مليون انسان فلسطيني يتعرضون لأبشع حصار وإن أخفقت في الوصول اليهم.
وهذه المبادرة وإن أخفقت في كسر الحصار الاسرائيلي على أهل القطاع إلا أنها نجحت في كسر “الحصار المصري” فأسفرت ولو مؤقتا عن فتح معبر رفح، ولربما فتحت أيضا معبر التواصل السياسي بين ضفتي الانقسام الفلسطيني في غزة ورام الله، وهو انقسام من المعيب على اصحاب القضية أن يبقى مستمرا على هدير الدم التركي المراق على مذبح قضيتهم
Leave a Reply