الإدارة الأميركية لا ترتاح لمواقفه الأخيرة من سلاح “حزب الله”
لم يمض شهر، على تولي سعد الحريري رئاسة الحكومة، حتى كانت دمشق وجهته، وهو زارها للمرة الثالثة خلال ستة أشهر، كان آخرها زيارتين لم يفصل بينهما سوى أسبوع، في منتصف أيار الماضي قبل أن يذهب الى واشنطن وبعدها وقابل الرئيس الأميركي باراك أوباما، وألقى كلمة في مجلس الأمن الدولي في نيويورك، لأن لبنان كان رئيساً له لهذا الشهر، وهو العضو غير المؤقت الذي يمثل المجموعة العربية فيه.
بدأت العلاقات تتصاعد إيجابياً بين الرئيس السوري بشار الأسد، منذ لقائهما الأول في 19 كانون الأول من العام الماضي، الذي اعتبر كسراً للحاجز النفسي، الذي قام بينهما، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والاتهامات السياسية غير الموثقة، التي ساقها آل الحريري وحلفاؤهم في “14 آذار” ضد النظام السوري، بأنه يقف وراء الجريمة وتبين بطلان الادعاءات التي تم تسويقها، ولم يرد في أي تقرير للجنة التحقيق الدولية علاقة لأي شخص في القيادة السورية بعملية الاغتيال.
فالقطيعة التي دامت حوالي الخمس سنوات بين “تيار المستقبل” والمسؤولين السوريين، رممها رئيسه الحريري، الذي تلقى نصيحة سعودية وأخرى فرنسية، أن يقيم علاقة مع الرئيس الأسد الذي يملك مفتاح الحل لكل القضايا الأساسية في المنطقة، وأن سوريا هي رقم صعب في المعادلة العربية كما الإقليمية، ولا يمكن القفز فوقها، حتى أعتى خصومها سلموا لها بدور كبير في السياسة العربية، لما تملكه من أوراق فاعلة ومؤثرة، ولوقوفها ودعمها لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق.
فسوريا لا يمكن إسقاطها من الجغرافيا السياسية، فهي لاعب أساسي، ولها حضور قوي في لبنان من خلال حلفائها، كما من الدور الذي رسمته لها، وهو يستند الى منطق القوة التي تمارسه المقاومة في لبنان ودعمها لها، بتصديها للعدو الإسرائيلي، وإنزال الهزائم بجيشه في العام 2000، بتحرير الأرض، أو في صيف 2006، بمنعه من تحقيق أهدافه العسكرية والسياسية.
فاتخاذ سوريا قرار الوقوف الى جانب المقاومة، كان السبب في الضغط عليها، وفي استصدار قرار مجلس الأمن الدولي 1559، للانسحاب من لبنان، وهي خرجت عسكرياً لكنها بقيت صاحبة الحضور الأقوى من خلال حلفائها الذين تمكنوا من دحر المشروع الأميركي–الإسرائيلي، وقلب المعادلات الداخلية وفرض توازن في السلطة، أجبرت أميركا ودول أوروبية وأخرى عربية وعلى رأسها السعودية الى التسليم بالحل السوري للأزمة اللبنانية، الذي عبر عنه اتفاق الدوحة الذي رعته قطر حليفة سوريا، وأنتج رئيساً توافقياً للجمهورية، وحكومة وحدة وطنية، وانتخابات نيابية، ثم حكومة وفاق وطني، فسحب موضوع المقاومة وسلاحها من التداول وطرحه على طاولة حوار، ضمن إستراتيجية دفاعية للاستفادة منه.
وهكذا باتت سوريا صاحبة الحضور الفاعل على الساحة الداخلية اللبنانية، دون التدخل بشؤونه، لكنها رسمت للعلاقة مع لبنان بشقيه الرسمي والسياسي خارطة طريق، لا بد من سلوكها للوصول الى دمشق، على كل من يريد أن يجتاز الحدود اللبنانية عند نقطة المصنع، وعليه أن يحصل على تأشيرة دخول من حارة حريك حيث مقر المقاومة، التي هي تمنح صفة الوطنية والقومية، لمن يريد أن يكون حليفاً وصديقاً لسوريا، التي وضعت سقفاً لهذا الموضوع، وهو أن الموقف من المقاومة، هو معيار الحليف، وأن رفض الفتنة المذهبية، هو المثال للصديق، وأن عدم تسييس المحكمة الدولية هو النموذج للوفاء.
هذه الأقانيم الثلاثة، حددتها القيادة السورية كشروط للتواصل والتلاقي معها، وهذا ما أبلغته الى الرئيس الحريري وللنائب وليد جنبلاط، وطلبت منهما التقيد بهم، وهو الاختبار للعلاقة معهما، وهذا ما حصل، وبدأ رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي يطبقه من قبل أن يذهب للقاء الرئيس الأسد، وقد انخرط في المشروع الوطني الواسع، وخرج مما يسميه هو الإنعزال والتقوقع، وذهب الى الفضاء الواسع في العروبة وقضيتها المركزية فلسطين، وأيّد حق المقاومة في الدفاع عن لبنان، وأشاد بالانتصارات التي حققتها، حيث خرج جنبلاط من الامتحان بنجاح، ففتحت له أبواب قصر الشعب حيث التقى الرئيس الأسد، كما أصبحت طرق دمشق وحاراتها وأسواقها ومطاعمها، الأمكنة التي يحب أن يزورها، ليقول للشعب السوري أنه أخطأ معه، وهو الآن في ضيافته وربوعه، حاملاً معه تراثه النضالي، وتاريخ من العمل المشترك مع الرئيسين حافظ وبشار الأسد.
فجنبلاط يعرف سوريا وقيادتها، وهو تأهل سياسياً، على يد قادة فيها، ولا ينكر ذلك إذ يتحدث عن نصائح أسديت له في الأيام العصيبة، وأن مساعدات قدمت له في زمن المحن، وهو مدين لهؤلاء الذين ساعدوه ووقفوا الى جانبه واحتضنوه بعد اغتيال والده، ومكّنوه من كل شيء وأدخلوه في صلب المعادلة اللبنانية.
فهذه التجربة الجنبلاطية، نقلها رئيس “اللقاء الديمقراطي” لحليفه رئيس “كتلة المستقبل”، ونصحه بأن ينفتح على سوريا ورئيسها، إذا كان يريد أن يحكم، وما عليه إلا أن يزرع الثقة لدى القيادة السورية، وهذا ما فعله والده رفيق الحريري، الذي أعطته سوريا كل شيء، فكان الحاكم المطلق، وأزاحت من أمامه كل خصومه الذين يفترض أنهم سيعرقلون عمله، ودجّنت الحلفاء الذين قد يخالفونه الرأي، واستقر في رئاسة الحكومة لمدة عشر سنوات متتالية وهي الأطول في عهود رئاسات الحكومة في لبنان.
لقد استمع سعد الحريري جيداً الى تجربة جنبلاط وعلاقته مع سوريا، في كل الفترات والمراحل السلبية منها والايجابية كما أن العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، أبلغ الحريري رسالة واضحة، أن يتعاون مع شقيقه بشار، وان لا يلتفت الى الوراء وأن يفك موضوع اغتيال والده عن العلاقة مع سوريا التي باتت حاجة لبنانية للاستقرار والتصدي للفتنة والحفاظ على الوحدة الوطنية، ودعم المقاومة.
تلقف الحريري النصائح التي أسديت إليه، واتخذ قراره، أن يتفاعل مع الرئيس الأسد وينشئ “كيمياء” معه، وهذا ما حصل منذ اللقاء الأول، الذي اتبعته اتصالات هاتفية بينهما، كان خلالها رئيس الحكومة أمام الاختبار أيضاً، لمعرفة كيف سيترجم أقواله الى أفعال، وكيف ستنعكس مواقفه الإيجابية من سوريا والمقاومة على تياره السياسي وأنصاره وجمهوره، كما على قيادته، ثم على حلفائه من قوى “14 آذار”.
لم يكن سهلاً على الحريري أن ينقل محازبيه من حالة العداء لسوريا وقيادتها الى نسج تحالف وتعاون معها، ولو تحت لواء الدولة، فالنائب وليد جنبلاط يستطيع أن يفرض تغيير مواقفه على قاعدته، ولو حصل داخلها بعض التململ والإرباك الذي يستوعبه، ويتجاوب أنصاره معه، لأنه “البيك” ولا بدّ من تقدير ظروفه، وهذا ما لا يستطيع أن يفعله الحريري، الآتي الى السياسة، من بيت مال وسلطة، وليس من زعامة سياسية كانت بدأت تتكون مع رفيق الحريري لكن ببطء، فجاء اغتياله ليضع أغلبية الطائفة السنية في قريطم، تحت وقع الصدمة للحدث، ولأن الظروف السياسية الداخلية والخارجية، كانت تهيىء الأرضية، لتحول السنة الى طائفة تسير عكس العروبة وفلسطين والمقاومة ضد إسرائيل بسبب ارتباط آل الحريري بمجموعة الأنظمة العربية التي أقامت علاقات مع إسرائيل وصالحتها.
لذلك كان مطلوب سورياً من الحريري، أن يعيد طائفته الى موقعها القومي الأساسي والى ثوابتها الوطنية، وهو ما طُلب من جنبلاط الذي كاد أن ينقل طائفته الدرزية من طائفة عربية تدافع عن الثغور وتقف بوجه الاستعمار وحملات الإفرنج، وتكون طليعة في الدفاع عن العروبة وفي موقع المقاومة، الى السير في المشروع الأميركي للمنطقة وتراجع عنه، وهذا ما على الحريري أن يفعله، أن يخرج طائفته من غير الموقع الذي وُضعت فيه، فتحولت الى حالة مذهبية، بدلاً من حالة وطنية، وبات صراعها مع الشيعة وليس ضد إسرائيل، ونظرت الى سلاح المقاومة أنه سلاح للداخل، للتحريض عليه من ضمن استهدافه إسرائيلياً، لإغراقه في اقتتال مذهبي، لم ينجر إليه “حزب الله”.
كل هذه الدروس والعبر، تلقفها الحريري وذهب الى سوريا، حاملاً قناعاته الجديدة معه، فلم تعد المقاومة مادة للسجال الداخلي، بالرغم من محاولات بعض من تياره وحلفائه لا سيما “القوات اللبنانية” التصويب على المقاومة وسلاحها، وهو ما أحرج رئيس الحكومة الذي حاول تغيير سلوك محازبيه وحلفائه، فنجح في التخفيف من الحملة على سوريا، لكنه لم يتمكن من ضبط المواقف ضد المقاومة، التي دافع عنها الحريري في واشنطن أمام الرئيس أوباما، واعتبر وجودها ضرورة وطنية لبنانية طالما الاحتلال الإسرائيلي موجود في أجزاء من لبنان في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر، ولم تنفذ إسرائيل القرار 1701 الذي تخرقه باستمرار وتعتدي على سيادة لبنان.
كلام الحريري في البيت الأبيض لم يكن محل رضى ساكنه، كما أن موقفه من عدم وصول صواريخ “سكود” الى “حزب الله” وتشبيه الحملة الأميركية بتلك التي قامت ضد أسلحة الدمار الشاملة في العراق، التي تبين أنها غير موجودة، قد أثار ردة فعل أميركية سلبية، وأرسلت الإدارة عبر نائب مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط جيفري فيلتمان عتباً وأسفاً لرئيس الحكومة، الذي أبلغه وزير الدفاع روبرت غيتس أثناء اجتماعه به في واشنطن أن تسليح الجيش متوقف على وقف السلاح الى “حزب الله”، وعلى تضامن لبنان ووقوفه الى جانب أميركا وحلفائها في مجلس الأمن مع فرض العقوبات على إيران.
بهذه الأجواء الاميركية السلبية عاد الحريري من واشنطن الى دمشق، والتقى الرئيس الأسد، وأبلغه بمواقف المسؤولين فيها، حيث أثنى الرئيس السوري على موقفه، واعتبره يعبر عن حقيقة الموقف اللبناني الوطني، الذي كانت سوريا تسانده دائماً، وترى فيه ركيزة للوحدة الوطنية بين اللبنانيين بمواجهة العدو الإسرائيلي.
لقد أنتجت الزيارتان الأخيرتان للحريري الى دمشق، مناخاً من الثقة التي تقدمت مع مواقف رئيس الحكومة الذي أبلغ الرئيس الأسد أنه مؤمن بضرورة التنسيق بين البلدين، وتلازم المسارين في عملية السلام، ما يعطي قوة لهما، وأنه يؤيد ما كان أبلغه إياه قبل توجهه الى العاصمة الأميركية، أن القوة هي الورقة التي يحملها أي طرف للتفاوض، وأن المقاومة في لبنان، هي قوة له، لا يجوز التفريط بها، وهذا ما أكّده الحريري أمام المسؤولين الأميركيين، على حق لبنان بالمقاومة التي هناك شبه إجماع لبناني حولها، وقد تحلق حولها اللبنانيون في أكثر من محطة، لا سيما أثناء الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان.
لقد أصبح الحريري قريباً جداً من سوريا، ولا يفصله عنها سوى إزاحة من ما زال يشكك بعلاقتها مع لبنان، وينظرون إليها نظرة عداء…
Leave a Reply