الصراع على هوية لبنان أنتج أزمات داخلية وعلاقات توتر مع سوريا
لم تمر العلاقات اللبنانية–السورية، أيام الاستعمار الفرنسي للبلدين، ما مرت به بعد جلاء المستعمر واستقلالهما، إذ في تلك الحقبة، كانت هناك مصالح مشتركة، ومجلس اقتصادي مشترك، وجمارك واحدة، وعملة واحدة باسم مصرف لبنان وسوريا، الى الحدود المفتوحة بين البلدين، وانتقال الأفراد بشكل طبيعي دون معوقات الخ…
فالعنوان الاقتصادي كان العامل الذي جمع بين بلدين، كونتهما جغرافيا واحدة، وتاريخ مشترك من النضال، ومصير قومي واحد، وروابط اجتماعية وعائلية، إضافة الى الثقافة الشعبية التي لا تفرّق بينهما، وهو ما دفع بالرئيس الراحل حافظ الأسد،الى ان يعلن مقولته الشهيرة “شعب واحد في دولتين” ولم يكن يتحدث من منطلق عقائدي، وانتمائه فكرياً الى حزب “البعث”، الذي يدعو الى “امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، بل لان الواقع الجغرافي والتاريخي والتعاون الاقتصادي سابق لكل العقائد السياسية والفكرية، لأن المؤرخين يتحدثون عن بلاد الشام، وعن سورية الطبيعية أو الهلال الخصيب أو المشرق العربي، وكلها مصطلحات وردت عند كل المؤرخين، حتى في الكتب السماوية، فذكرها الإنجيل، ولا يغفلها علماء الاجتماع والباحثون في التاريخ والعاملون في الجغرافيا الطبيعية والسياسية، وما كوّنه الله، لا يفرقه إنسان، وهي أيضا مقولة اشتهر بها الرئيس السوري الراحل.
فالجميع في لبنان وسوريا، يسلّم بالعلاقة، وهي لم تهتز أو توتر وأحيانا تتدهور، إلا بسبب السياسة ولعبة الأمن والمخابرات، التي سادت بين الدولتين منذ نشوئهما وترسيم حدودهما في اتفاقية سايس بيكو الشهيرة بين فرنسا وبريطانيا، والدخول في لعبة المحاور التي كانت تضع الحكومتان في البلدين بمواجهة بعضهما، مما كان يرفع حدة التأزم، عندما كانت السلطة اللبنانية تقف الى جانب محور عربي لا يكون فيه الحكم في سوريا، أو ان تسمح سلطة لبنانية، بالعمل من ارضها لمعارضين سوريين، حيث كانت كل العهود السورية تخشى وتشكو من تدبير مؤامرات وانقلابات عليها من لبنان.
هذه الأجواء حكمت علاقة الدولتين، منذ استقلالهما، وكانت بعض الأبواق الانعزالية، تدّعي ان سوريا لا تعترف بلبنان ككيان منفصل عنها، بل تعتبره جزءاً منها، قام الاستعمار باقامة الحدود بينهما، في الوقت الذي كانت تصدر مواقف سورية، تتحدث عن ان لبنان كان جزءاً من امة، ولا مانع ان تعود الى الوحدة إليها، وهذا واقع عمل عليه وطنيون لبنانيون وسوريون من مختلف الطوائف، وتم التعبير عنه في المؤتمر السوري، في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وان بين اللبنانيين، كانت هناك نزعة وحدوية سورية وعربية، تقابلها نزعة كيانية لبنانية رافضة للعروبة، وتتطلع الى الغرب كمظلة حماية منذ ان انشأ الجنرال غورو لبنان الكبير في العام 1920.
فالصراع على هوية لبنان كان احد أسباب التوتر الداخلي اللبناني، الذي انعكس أزمات سياسية وحروب أهلية، وقد حاول اتفاق الطائف، إجراء تسوية بالإشارة الى ان لبنان عربي مستقل وهي تسوية متقدمة عن صيغة 1943، التي اتفق عليها الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح على ان يسقط المسيحيون فكرة الحماية الغربية والمسلمون فكرة الوحدة العربية أو السورية، وهكذا كانت الصراعات تنتهي بتسويات وصيغ مؤقتة، وهو ما كان يبقي التوتر قائماً لبنانياً، وفي العلاقة مع سوريا التي جاء اتفاق الطائف ليقول ان لبنان عربي، واعترف الرئيس الأسد باستقلاله وأرسيت العلاقة على المؤسسات لا على المزاج الشخصي، ولا على صداقة تتحكم أحيانا بين مسؤولين في البلدين، فكان “المجلس الأعلى اللبناني–السوري”، هو النموذج الذي يجب ان يبنى عليه التعاون والتنسيق من خلال الإخوة التي تجمع بين البلدين، وقد تكرس ذلك من خلال معاهدة وقعت بين الطرفين، وأقرت في المؤسسات الدستورية للدولتين.
هذه المؤسسة وفي ظل الوجود العسكري والأمني السوري، لم تعط حقها، وقد طغى الأمن على كل شيء، فغابت العلاقات اقتصادية السليمة كما ان السياسيين اللبنانيين اظهروا العلاقة مع سوريا، وكأن لبنان تابع لها، وقد ساعد في ذلك ممارسات من قبل مسؤولين سوريين، تسلموا الملف اللبناني فلم يظهر أي دور لمعنى التنسيق الذي حصل بين البلدين في مفاوضات السلام بعد مؤتمر مدريد، حيث كان إصرار من قبل الرئيس حافظ الأسد، على ربط المسارين، من اجل تقوية المفاوض اللبناني والسوري، لا بل كانت نظريته ان يكون العرب ممثلين بوفد واحد، لعدم تجزئة الحلول التي لا تفيد.
ففي السياسة الخارجية والدفاعية، نجح البلدان في تكريس نهج مشترك، إذ وقفت سوريا الى جانب المقاومة، وقدمت لها كل الدعم السياسي والمادي والمعنوي، وهو ما اقلق اسرائيل وأميركا، من هذه العلاقة التي بدأ العمل من قبلهما لفك ارتباطها، حيث تم تحريك جهات سياسية لبنانية، تدعو الى فك المسارين، والى انسحاب القوات السورية، ومنع التدخل الأمني السوري بالشؤون اللبنانية، متنكرين الى ان سوريا رعت السلم الأهلي بعد اتفاق الطائف الذي سعت الى تطبيقه لتحقيق إصلاحات في النظام السياسي، لكن بعض القوى السياسية والحزبية اللبنانية رفضت ذلك، وسايرها مسؤولون سوريون، مما أحبط عملية الإصلاح، حيث اعترف الرئيس بشار الأسد مؤخراً ان حلفاء لنا في لبنان لم يساعدونا في عملية الإصلاح.
فتجربة العلاقة اللبنانية–السورية، كانت فيها ايجابيات كما سلبيات أعلن الرئيس الأسد بكل جرأة وصدق، من ان تجاوزات وارتكابات حصلت أثناء الوجود السوري في لبنان، ولا بد من درسها وتقويمها واستخلاص العبر، وهو لم يكن يقول ذلك تحت تأثير الانسحاب السوري من لبنان، الذي كان الرئيس الأسد مقتنعاً بضرورة حصوله في يوم من الأيام، وقد خفف من وجوده في أكثر المناطق اللبنانية منذ العام 2000، وبعد تبوئه رئاسة الجمهورية، لانه كان يعرف ان العلاقات لتكون سوية يجب ان تعبر المؤسسات، وهو بدأ مع الرئيس اميل لحود تكريسها، وقد ساهم في حل الكثير من العقد والمشاكل والملفات، وزار لبنان وهبط في مطاره، للتأكيد على استقلاله، حيث كانت التصريحات لاسيما من قبل “لقاء قرنة شهوان” آنذاك تشير الى ان سوريا لا تعترف باستقلال لبنان، ولا بالسلطة فيه، فجاءت زيارة رئيسها الى القصر الجمهوري اللبناني للتأكيد على ان العلاقة تكون طبيعية عندما يكون أيضا في لبنان حكم موثوق، ورئيس وطني يدعم المقاومة ولا ينصاع للضغوطات الخارجية، ولا يأتمر بأوامر الإدارة الاميركية، ولا يتآمر على سوريا.
فمعيار الثقة التي وضعها النظام في سوريا، هو قناعة المسؤول اللبناني وعمله على الثوابت الوطنية والقومية فكانت العلاقة ممتازة مع الرئيسين الياس الهراوي ولحود، الى ان جاء الاحتلال الاميركي للعراق، وطرح جورج بوش مشروعه “للشرق الاوسط الكبير” ودعوته الى إسقاط الأنظمة الدكتاتورية كما فعل مع صدام حسين في العراق حسب زعمه، وكان ينتظر إسقاط النظام في سوريا، ما ترك بعض أطراف لبنانية تتماهى مع المشروع الاميركي وتراهن على متغيرات دولية وإقليمية في المنطقة، لا سيما بعد صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي صنعته أميركا وفرنسا، ورأى هؤلاء فيه انه المدخل للانقضاض على الوجود السوري في لبنان، وبدأت حملة ضده من بيان المطارنة الموارنة، الى “لقاء قرنة شهوان” الى تبدل موقف وليد جنبلاط، وصمت الرئيس رفيق الحريري، والضغوط الاميركية على القيادة السورية باستصدار عقوبات عليها، وكل هذا الضغط كان يمارس من ساحة لبنان، حيث اغتيل الحريري وجرت محاولة لتلبيس سوريا ونظامها الجريمة بالتعاون مع النظام الأمني اللبناني، وقد ظهرت المؤامرة جلية، وهي ان تفك سوريا وعلاقتها بالمقاومة، وتسحب يدها من لبنان وتركه يوقع سلاماً مع اسرائيل.
فالعلاقة التي بدأت تتأسس منذ ما بعد اتفاق الطائف مؤسساتياً، جاء اغتيال الحريري ليضربها، حيث ارتفعت أصوات تطالب بترسيم الحدود مع سوريا، لا بل الى إقفالها وإقامة جدار معها، وتحركت عنصرية ضد السوريين مواطنين وعمالاً، وفتحت الساحة اللبنانية للمعارضة السورية، لتعمل منها على إسقاط النظام، مما رفع سقف التوتر الى ذروته، حيث حاول البعض ربط الأسباب بالتمديد للرئيس لحود، ثم إظهار مساوئ الوجود السوري لجهة التدخل في الأمور التفصيلية اللبنانية، وهو ما كان يستدرجه لحصوله مسؤولون لبنانيون وقد تناسوا التضحيات التي بذلها الشعب السوري تجاه لبنان، بإرسال أبنائه في الجيش لوقف الحرب الأهلية، وتثبيت الأمن والاستقرار ومنع التقسيم ودعم المقاومة في تحرير الارض.
مرت سنوات أربع على علاقات متوترة منذ قيام “ثورة الأرز” ورفع شعار “لبنان أولا” وانتعاش الفكر الانعزالي والكياني، الذي انتبه له وليد جنبلاط لاحقاً، بعد ان شارك في التعبئة والتحريض ضد سوريا، وهو ما بدا نادماً على ما فعله، وقدم ما يشبه الاعتذار لسوريا وشعبها وقيادتها، وعاد الى التموضع في العروبة والعلاقة المميزة مع سوريا ومع فلسطين والمقاومة، وقد ساهم موقفه هذا في انتعاش العلاقة اللبنانية–السورية من جديد التي تكرست في زيارته الى دمشق ولقائه الرئيس السوري وقبله رئيس الحكومة سعد الحريري الذي ذهب الى مصالحة الرئيس الأسد تحت سقف المصالحة السورية–السعودية، التي تمت بعد ان ظهرت سوريا أنها قوية وليست ضعيفة، وهي دولة فاعلة وليست معزولة، وسقطت كل مفاعيل العقوبات والحظر عليها، وباتت مفتاحاً للحل، وقد سوريا مع حلفائها في لبنان من إخراجه من المشروع الاميركي، وفي تصحيح التوازن الداخلي، فكان انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية على انه مرشح توافقي، ولكنه عملياً حليف سوريا والمقاومة، وقد اعتبر امتداداً سياسياً لعهد لحود مع اختلاف في الظروف، وكان أول لقاء جمعه مع الرئيس الأسد في آب 2008، أرسى عودة العلاقات من خلال مؤسسات الدولتين، وقد أسهم من خلال موقعه في رئاسة الجمهورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية، الى عودة الثقة بين البلدين، مع التحول الذي أجراه جنبلاط والتبدل الذي بدأه الحريري، حيث عادت الى طبيعتها دورة الاتصالات، فزارها رئيس الحكومة ثلاث مرات خلال ستة أشهر، وأسس لعلاقة ثقة وانسجام مع الرئيس السوري، وهو ما يطمئن ان البلدين الجارين لا تؤسس لعلاقتهما سفارة ولا تمثيل دبلوماسي، ولا ترسيم حدود على أهمية هذه العوامل، بل ان ما يرسي علاقة صحيحة هو تحسين التعاون، لا سيما في المجال الاقتصادي وهو ما يدفع بالعلاقة الى مستوى المصلحة المشتركة وهذا ما بوشر بعمله، من خلال تفعيل المجلس الأعلى اللبناني – السوري، وإعادة قراءة وتقويم الاتفاقيات بين وزارات البلدين، وإجراء ما يلزم من تعديل إذا لزم الأمر، وسيكرس هذا التعاون من خلال اجتماع دوري للهيئة المشتركة برئاسة رئيسي حكومتي الدولتين، على ان ينعقد المجلس الأعلى بعد توقف دام أكثر من خمس سنوات، في لبنان، وبذلك يتكرس وجوده، كمؤسسة تؤمن سوريا بضرورة وجودها، بالرغم من دعوات لبنانية لإلغائها، لكنها مستمرة وهي ليست بديلاً عن التبادل الدبلوماسي الذي له عمل أخر مختلف.
ولقد كرّس الرئيس سليمان في زيارته الثالثة لسوريا، العلاقة في إطارها المؤسساتي إذ لاقى دعماً لموقع رئاسة الجمهورية من نظيره السوري الذي أكد على أهمية قيام تعاون اقتصادي وتطوير الاتفاقيات في السياسة الخارجية والدفاعية، وهو موضوع تعلق عليه سوريا أهمية كونه المدخل الى ترسيخ علاقة جيدة وايجابية، إذ لا يمكن ان تكون سوريا في مكان سياسي لجهة الصراع مع اسرائيل ورفض لمشاريع الهيمنة الاميركية، ولبنان في مكان أخر، حيث اثبتت تجربة السنوات الخمس الماضية، ان الموقعين المتناقضين في السياسة الخارجية والدفاعية، يؤدي الى توتر وإغلاق حدود، وقطع العلاقات، وان التجربة التي حصلت بعد اتفاق الطائف اثبتت صحتها لجهة التنسيق والتعاون وهذا ما يجب العمل على تفعيله، من خلال المجلس الأعلى اللبناني السوري والسفارتين في البلدين.
Leave a Reply