مهما توفّر من أفكار جيدة في الساحة العربية، فإن وجود الفكرة وحده لا يكفي. فالفكرة، كي تتحوّل إلى دعوة ناجحة، تتطلّب وجود أربعة عناصر لهذه الدعوة :
1. وضوح الفكرة وسلامتها وانسياقها مع الواقع وانطلاقها من الأصول المبدئية للهويّة الثقافية العربية ولمضمونها الحضاري، لا من الفروع التفصيلية الموجودة فيها.
2. وجود الدعاة والمفكرين والمثقفين الذين يحملون هذه الفكرة وسلوكهم ينسجم مع طرحهم الفكري، بحيث لا تبرز مشكلة الانفصام بين الفكرة والتطبيق، ممّا يجعلهم- وبما يجب أن يتحلّوا به من كفاءة وقيم ومبادئ- نقطة جذب للفكرة نفسها.
3. بناء مؤسسات متنوعة المجالات، متعدّدة الرؤى لأساليب العمل، ديمقراطية الأسلوب والبناء الداخلي .
4. رفض استخدام العنف بكافّة أشكاله في أسلوب الدعوة للفكرة والتعامل مع الظروف المحيطة بحكمة ومرونة من أجل محاولة تحسين هذه الظروف لتنسجم مع إمكانات الدعاة ومؤسساتهم .
إن التوافق على فهم مشترك لمعنى أي مصطلح فكري هو المدخل الأهم لأي حوار أو عمل يستهدف تحقيق نهضة عربية. فالتشويه حدث ولا يزال في البلاد العربية لمصطلحات فكرية ولمفاهيم كانت هي الأساس في تغيير إيجابي بكثير من أرجاء الأمَّة العربية، وفي مراحل زمنية مختلفة، بينما تنتعش مفاهيم ومصطلحات أخرى تحمل أبعاداً سلبية في الحاضر والمستقبل إذا ما جرى الركون إليها أو التسليم بها. فمصطلح “الشرق الأوسط” أصبح أكثر تداولاً الآن من تعبير “الأمَّة العربية”. ومصطلح “المصالح الطائفية والمذهبية” أضحى أكثر انتشاراً من الحديث عن “المصلحة الوطنية أو القومية”.
هناك رؤى خاطئة عن “المثقّفين العرب” من حيث تعريفهم أو تحديد دورهم. فهذه الرؤى تفترض أن “المثقّفين العرب” هم جماعة واحدة ذات رؤية موحدة بينما هم في حقيقة الأمر جماعات متعدّدة برؤى فكرية وسياسية مختلفة قد تبلغ أحياناً حدَّ التعارض والتناقض. وتوزيع دور هذه الجماعات لا يصحّ على أساس جغرافي أو إقليمي، فالتنوّع حاصل على معايير فكرية وسياسية. و”المثقّف” هو وصف لحالة فرديّة وليس تعبيراً بالضرورة عن جماعة مشتركة في الأهداف أو العمل. قد يكون “المثقّف” منتمياً لتيّار فكري أو سياسي يناقض من هو مثقّف في الموقع المضاد لهذا التيّار، وكلاهما يحملان صفة “المثقّف”!.
كلمة “المثقف” يمكن استخدامها ككلمة “اللون”، إذ هناك حاجة لوضع كلمة أخرى تُحدد المعنى المطلوب كالقول “اللون الأحمر” أو “الأخضر”. لذلك من المهمّ تحديد صفة المثقف العربي المُراد الحديث عن مسؤوليته. فهو “المثقّف الملتزم بقضايا وطنه أو أمته”، أي الجامع لديه بين هموم نفسه وهموم الناس من حوله، كما الجمع عنده بين العلم أو الكفاءة، وبين الوعي والمعرفة بمشاكل المجتمع حوله. أي أن “المثقف الملتزم” هو “طليعة” قد تنتمي إلى أي فئة أو طبقة من المجتمع، لكن تحاول الارتقاء بالمجتمع ككل إلى وضع أفضل ممّا هو عليه. لذلك من الأجدى دائماً وضع تعريف فكري أو سياسي برفقة صفة “المثقّف”، كالقول هذا “مثقف إسلامي أو علماني أو قومي أو ليبرالي”.. الخ، وليس اعتماد الحالة الجغرافية كدلالة على المشترك بين المثقّفين. وما ينطبق على تعريف “المثقفين العرب” يصحّ أيضاً على المثقّفين داخل كل بلد عربي. فالحديث عن “المثقّفين اللبنانيين” أو “المصريين”.. لا يعني وجود توافق فكري أو سياسي بينهم يستوجب منهم عملاً مشتركاً.
إنّ الكفاءات العربية تحتاج، كي تبدع الآن في المنطقة العربية، إلى شعار جديد تضغط على الحكومات العربية لتنفيذه بين دولها: “دعه يمر.. دعه يعمل.. دعه يفكر.. دعه يقول”، وفي تنفيذ هذا الشعار إسقاط لعناصر التقسيم والتشرذم والبطالة والاستبداد، وتجميد لنزيف الأدمغة العربية وهجرتها إلى الخارج.
إنّ الاصلاح والتصحيح والتغيير كلّها مسائل مطلوبة وممكن تحقيقها لكنّها غايات للعمل على المدى الطويل وليست بالعمل الفردي وحده، أو بمجرد التنظير الفكري لها. لكن في كل عمليّة تغيير هناك ركائز ثلاث متلازمة من المهمّ تحديدها، وهي: المنطلق، الأسلوب، والغاية. فلا يمكن لأي غاية أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الرّكائز الثلاث. أي أنّ الغاية الوطنيّة أو القوميّة لا تتحقّق إذا كان المنطلق لها، أو الأسلوب المعتمد من أجلها، هو طائفي أو مذهبي أو مناطقي. ولعلّ في تحديد (المنطلقات والغايات والأساليب) يكون المدخل السليم لدور أكثر إيجابيّة وفعاليّة لـ”المثقف العربي الملتزم بقضايا أمته”.
الأزمة في الثقافة العربية هي جزء من أزمة العرب بشكل عام. فالثقافة العربية الراهنة تعاني مشكلة ضياع الهويّة لدى العرب والتعارض القائم بين واقع إقليمي من جهة وبين مضمون ثقافي عربي مشترك من جهة أخرى. أيضاً، العرب بشكل عام يعانون أزمة غياب الديمقراطية، فالناس، وهم أصلاً هدف أي ثقافة، يحيط بهم سياج من المفاهيم الخاطئة والاستبداد السياسي. لذلك يُصبح بديل عدم إمكان الاحتكاك المباشر مع الناس هو الحلقات السرية المنعزلة عن الشعب في ظلّ ارتباط بعض المثقفين العرب بالحزبيات الضيقة ووجود نسبة كبيرة من الأمّية التي تمنع وصول الكلمة المكتوبة من المفكّر إلى عامّة الناس.
للأسف، فإنّ الواقع العربي ومعظم الطروحات الفكرية فيه، والممارسات العملية على أرضه، لا تقيم أيضاً التوازن السليم المطلوب بين ثلاثية الشعارات: الديمقراطية والتحرّر ومسألة الهويّة العربية. فالبعض يدعو للتحرّر ولمقاومة الاحتلال لكن من منابع فكرية فئوية أو من مواقع رافضة للهويّة العربية. أيضاً، هناك في المنطقة العربية من يتمسّك بالهويّة العربية وبشعار التحرّر من الاحتلال لكن في أطر أنظمة أو منظمات ترفض الممارسة الديمقراطية السليمة. بل هناك من يعتقد أنّ وحدة الهويّة العربية تعني بالضرورة آحادية الفكر والموقف السياسي فتمنع الرأي الآخر وتعادي التعدّدية الفكرية والسياسية التي هي جوهر أي مجتمع ديمقراطي سليم. فهناك اختلال كبير في المنطقة العربية بكيفية التعامل مع شعارات الديمقراطية والتحرّر والهويّة العربية، وفي ذلك مسؤولية عربية مباشرة وليس فقط نتيجة تدخّل خارجي.!
إنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى بناء مؤسسات وروابط وحركات عروبية ديمقراطية تحرّرية تستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهويّة العربية، مؤسسات فكرية وثقافية وسياسية تجمع ولا تفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية.. وإذا ما توفّرت القيادات والأدوات السليمة يصبح من السهل تنفيذ الكثير من الأفكار والمفاهيم والشعارات..
Leave a Reply