يكاد الرئيس السوري بشار الأسد أن يكون الزعيم العربي الوحيد المنسجم مع نفسه ومع الثوابت العربية و”الحافظ” لما تبقى من كرامة وطنية إزاء أكثرالأزمنة ردةً وظلاماً وقتامة. فقد تعرض الرئيس الشاب لتحديات مهولة في بداية حكمه وإلى أهوالٍ سياسية ووجودية كان بإمكانها أن تطيح بأكبرالأنظمة رسوخاً وعراقة، لكنه بقي ثابتاً كصخرةٍ صلبة وواجه هذه التحديات ببسالة. لما لاوقد تربى وتشرب ونهل من مبادئ بيت الإباء بيت الزعيم الراحل حافظ الأسد المعروف بصبرٍ أسطوري في سعيه لتحقيق توازن إستراتيجي مع إسرائيل ورفضه أن يتبع مثل رؤساء الأنظمة العربية الأخرى الزاحفين والواقفين في صف الإستسلام المذل والخارق لكل الإجماع العربي وأجبر رؤساء أميركا على لقائه في بلد ثالث محايد.
لقد صمد الرئيس بشار الأسد أمام محاولة جورج بوش الملقب بـ”أبو حذاء”، بالتعاون مع الدميتين جاك شيراك وطوني بلير، محاصرة سوريا عبر مضبطة الإتهام السياسي بقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري خصوصاً بعد إجتياح العراق والإطاحة بالطاغية صدام حسين. وبعد فشل بوش ومغفليه في الغرب في الخارج، انطلقت آلة الحرب الإسرائيلية لإطلاق رصاصة الرحمة على النظام عبر العدوان الإسرائيلي على لبنان عام ٢٠٠٦ (الخاصرة السورية الرخوة) حيث ارادت القابلة “غير القانونية” كونداليسا رايس أن تولد “شرق أوسط جديد” من رحم الخراب والدمار والبربرية الإسرائيلية وبحضور “ممرضة” النظام العربي الرسمي المتواطيء مع “مسعفي” صغار “١٤ آذار” السابقة! لكن الداية المشؤومة أُقيلت من المهنة وذهبت آمالها أدراج الرياح مع “إنقلاع” رئيسها دبليو وحزبه من الحكم وظل الرئيس السوري واقفاً كالهرم وبعد أن كان محاطاً بالعداء من كل جانب، خرج منتصراً بخياراته ومحاصراً لأعدائه واستعادت سوريا دورها المحوري في المنطقة من دون أن تساوم على حقوقها خصوصاً على الصعيد اللبناني حيث بلغت الهستيريا الإنقلابية ضد الأخوة والمصير المشترك إلى أقصى الحدود، ووصفت سوريا بما لم توصف به دولة وقتل عمالها في مناطق عدة من لبنان. لكنها كالأخ الأكبر عضت على الجراح وانتظرت حتى تهدأ الرؤوس الحامية وتبرد الألسنة السليطة.
نجح رهان الرئيس الأسد حيث اصبحنا نشاهد اليوم عودة وحدة المسار والمصير (التي تهكم عليها الصغار طويلاً) عبرالتفاهم مع سعد الحريري وعبر تنسيق وسام الحسن الدائم مع رستم غزالي (ما غيره) الذي طالما تناوله “أيتام بولتون” بالسوء (من يذكر ريف دمشق وترهات فارس خشان وجوني عبدو؟!).
الرئيس بشار أثبت أنه رئيس “العرب” عبر زيارته السريعة الخاطفة إلى تركيا للتضامن معها بعد “مجزرة الفجر” الإسرائيلية في المياه الإقليمية ضد “أسطول الحرية” إلى غزة المحاصرة والتي اقتحمت فيها القوات الخاصة الصهيونية سفينة “مرمرة” التركية فقتلت العشرات من الناشطين الإنسانيين بدمٍ بارد. وأعلن الرئيس السوري من أنقرة وقوف بلاده إلى جانب تركيا التي “إمتزج دماء أبنائها بدماء العرب” من أجل فلسطين.
لقد عرف الأسد كيف يلتقط بحذق اللحظة السياسية الراهنة من أجل أن يضع الدور التركي في سياقه الطبيعي بالنسبة للصراع العربي الإسرائيلي فيما ظهرأن باقي الحكام والملوك يشخرون على عروشهم. هذا الدورالسوري المتنامي، كان له دلالةٍ رمزية كبيرة في ذكرى حرب الأيام الستة (التي مرت بهدوء) في السادس من حزيران عام ١٩٦٧ التي احتلت فيها إسرائيل اراضٍ مصرية وسورية وأردنية بالإضافة إلى القدس الشريف وأذاقت العرب “المر من أكواعهم” منذ ذلك الحين إلى أن أصاب إسرائيل مصاب “طابخ السم آكله” فتذوقت طعم الهزيمة ثلاث مرات في ١٩٩٦و٢٠٠٠ و ٢٠٠٦.
ولعله من المنطقي تشجيع الفورة التركية ضد الطغمة العسكرية الإسرائيلية كما تفعل سوريا اليوم لعدة إعتبارات إستراتيجية، أولها أنها تلغي مسألة البعد المحلي للقضية الفلسطينية وتعيدها إلى المدى القومي والإسلامي والمسيحي والإنساني العالمي. وليس خافياً أن إسرائيل وأتباعها في أميركا دأبوا منذ مدة طويلة على الترويج بأن القضية الفلسطينية قضية عربية بحتة، ثم قضية فلسطينية خالصة إلى أن أصبحت قضية “حماس” فقط. وجاء الدورالتركي ليدحض كل هذه القطرية الضيقة. ثم روج “المحافظون الجدد” في إدارة “أبو نعل” أن إسرائيل لم تعد العدوالتاريخي للعرب وأن عدوهم الجديد هوالجمهورية الإسلامية في إيران ألتي كانوا يرجفون “قصباً” منها أيام الشاه المتعامل مع إسرائيل بعد أن “ربى القمل في رؤوس أنظمة الردة والخيبة” ولكن حين أصبحت إيران مكسباً للقضية العربية الأولى تحولت إلى عدووغريم فشنوا الحرب عليها من خلال صدام التكريتي والآن يستعدونها ويتوددون لإسرائيل. لكن الغباء الإسرائيلي بإسالة الدم التركي أعاد الأمور إلى نصابها الصحيح.
لقد بين الدورالتركي الجديد أن “حماس” ليست تابعة لإيران “الشيعية” فعاد التوازن المطلوب بأن القضية ليست مذهبية بل مبدئية. كما كشف المخطط الصهيوني الآيل ليس لضرب “حماس” فقط بل خنق الشعب الفلسطيني الذي حوصر في مخيمات إبادةٍ عنصرية عبرإحكام الطوق عليه بمساعدة وتحريض من “السلطة” ورئيسها الذي إنتهى مفعوله والأنظمة الرجعية الأخرى!
العرب “المعتدلون” وقفوا موقف المتفرج على البطولة التركية، بل حاولت ابواقه الإعلامية بالتكافل مع المعارضة التركية وإسرائيل التشكيك بالموقف المشرف للأتراك. أما “شبه الوطن” فحدث ولا حرج، حيث بانت “بصمات” وأنياب فؤاد السنيورة في القرارالحكومي بالإمتناع عن التصويت على العقوبات الأميركية ضد إيران الدولة الصديقة، بدل معارضتها! فالسنيورة الذي فضحه رئيس مجلس النواب بالنسبة إلى صرف ١١مليار دولار، قام بهذه العملية الانتقامية الإلتفافية لشق البلد من جديد وصرف الأنظار عن “فضائل” حكومته “غير الشرعية”. وإلا كيف نفسر إجتماع الحريري بالسيد نصرالله قبل يوم واحد ثم نشهد مهزلة العقم الحكومي عن إتخاذ قرار وطني جريء و.. مستقل. إن موقف لبنان المتهور يذكرني بموقف “حبيب” الكيانية اللبنانية بشير الشهابي الذي طلب منه الغازي الفرنسي نابليون بونابرت مساعدته على إقتحام عكا، كما طلب منه حاكم عكا أن يساعده في رد الحصار خصوصاً وأن إمارة بشير كانت تتبع إمارة عكا. فما كان من بشير إلا أن وقف على “الحياد” كما يقف اليوم أنصار الحياد و”محبي الحياة”، منتظراً على تلةٍ مشرفة لكي ينجلي غبار المعركة حتى ينضم إلى… المنتصر.
من العار ان يكون الموقف اللبناني أدنى من التركي والبرازيلي في الامم المتحده فقط من اجل إرضاء أنظمة التقاعس. وهذا اللبنان مشهور بنظرية الحياد على النمط السويسري على كل حال، لكنه لم يتعلم شيئاً من دروس التاريخ وأولها: ماذا ينفع اذا ربحت العالم والنظام الرسمي العربي وخسرت.. نفسك؟
Leave a Reply