منطقيا، لا يجوز السؤال عن أسباب صحوة سياسيي لبنان تجاه الحقوق المدنية لنصف مليون انسان فلسطيني في المخيمات المحاصرة منذ نحو ستة عقود. أخلاقيا ثمة ألف سبب وسبب لهذه الصحوة المتأخرة، لكن المطلوبة، لطي تلك الصفحة السوداء من التعاطي الطائفي البغيض مع فلسطينيي لبنان الذين لم تبدر عنهم أية اشارة طيلة ستين عاما يستفاد منها أنهم قد فرطوا بوطنهم السليب وحقهم المقدس بالعودة اليه.
في خضم “انتفاضة السفن” التي حملت نشطاء السلام من مختلف أصقاع الأرض نحو غزة، كان يبدو من “المحظور” لفت الانتباه الى الحصار الذي يعانيه الأشقاء الفلسطينيون داخل مخيماتهم اللبنانية. والذي لا تقل بشاعته كثيرا عن حصار عدوهم وعدو العرب دولة الكيان الصهيوني، بغية الحفاظ على وهج حملة “أسطول الحرية” للتضامن مع غزة.
جاء طرح قضية الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان على متن مشروع القانون الذي تقدم به النائب وليد جنبلاط، أمام المجلس النيابي اللبناني، ليرفع عن لبنان احراجا شديدا نظراً لتشابه أوجه الحصار الذي يتعرض له قطاع غزة على أيدي الأعداء الاسرائيليين والأشقاء المصريين، مع الكثير من أوجهه اللبنانية.
ظل اللبنانيون يتكاذبون حول اسطورة التوطين، ويتقاذفون كرتها كلما اشتدت أزمتهم تعقيدا. ودخلوا في حرب أهلية طائفية طاحنة احترق الفلسطينيون في أتونها الى جانب اخوتهم اللبنانيين، ولم ينتهوا من تلك المعزوفة-الفزاعة، رغم تضمين دستور الطائف الذي أنهى حربهم الأهلية، بندا صريحا في مقدمته عن رفض التوطين.
بالأمس سقطت آخر قطعة من الجدار الذي كان يفصل بين ما تبقى من قوى “8 آذار” و”14 آذار” بفضل الوضع البائس والمعيب للفلسطينيين في لبنان.
وأغلب الظن أن وليد جنبلاط لم يرد المزاودة على أحد سياسيا عندما حاول انزال ذلك العبء الأخلاقي عن كاهل ضميره الوطني والعربي وهو يشاهد قوافل السفن المتجهة الى شواطئ غزة والمحملة بمشاريع شهداء على أيدي العنصريين الصهاينة الذين لا يقيمون وزنا حتى للتحرك السلمي الخالص بالقرب من حدود رعبهم المستحكم، وقلقهم من محاكمة شعوب العالم لغطرستهم واصرارهم على إبقاء شعب بأكمله داخل سجن كبير.
عيب أن يتقاطع الللبنانيون مع الاسرائيليين في تأجيل البحث في تخفيف الحصار عن الشعب الفلسطيني في غزة، وفي مخيمات لبنان. كان المرجو والمنطقي أن يحسم الأفرقاء اللبنانيون أمرهم في جلسة مقتضبة ويمنحوا فلسطينيي المخيمات أبسط الحقوق المدنية المتعارف عليها بين الدول والشعوب. وعيب أن يعيد اللبنانيون إنتاج انقساماتهم على أسس طائفية، ودائما بحجة رفض التوطين!
أثبت بعض السياسيين اللبنانيين مرة أخرى أنهم لايزالون أسرى لهواجسهم الطائفية البغيضة وخيب بعضهم ظنون من توهموا أن الحاجز الطائفي في لبنان قد تم اجتيازه ودخلنا في واحة الانسجام الوطني على اسس لاطائفية.
ألم يضم تحالف “8 آذار” قوى من المسلمين والمسيحيين ومثله تحالف “14 آذار”؟ كيف استعاد هذان التحالفان فجأة الاصطفاف الطائفي، فأصبحنا مجددا أمام معادلة “اليمين المسيحي” ضد “اليسار المسلم”؟
لقد كان رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الأجرأ في توصيف الواقع الفلسطيني في لبنان، عندما حذر من “أن تأتينا الوفود لفك الحصار عن مخيمات بيروت وصيدا وصور وغيرها، بينما يتسابق اللبنانيون للمشاركة في كسر الحصار الاسرائيلي على قطاع غزة”. وضع سعد الحريري سقفا شديد الانخفاض أمام حكومته للتعاطي مع هذه المسألة بكل الجرأة الوطنية والمسؤولية الأخلاقية، وسوف يكون من الصعب التراجع عن تشريع الحقوق المدنية للفلسطينيين، رغم حدة الانقسام اللبناني بازاء هذه المسألة التي تجري شيطنتها دائما عبر الباسها ثوب التوطين.
لقد تحمل الفلسطينيون في لبنان (رغم أخطاء قياداتهم) وزر الانقسامات الطائفية اللبنانية. واذا كان من غير المجدي استعادة تلك الفصول البشعة من الحرب الأهلية وحروب المخيمات ومجزرة صبرا وشاتيلا، التي سال فيها دم فلسطيني غزير على الأرض اللبنانية، واختفى بشر لاتزال مصائرهم غير معلومة، يبقى على اللبنانيين أن يتحلوا بالشجاعة الأخلاقية والوطنية للاعتراف بكل ما اقترفت أياديهم بحق الفلسطينيين وباسمهم أحيانا. على اللبنانيين أن يدركوا أن المماطلة في الاعتراف بالحقوق المدنية لنصف مليون انسان فلسطيني على ارضهم باتت أقرب الى الممارسة العنصرية منها الى الهواجس الطائفية.
وعلى اللبنانيين أن يدركوا أيضا أن التأخير في هدم أسوار المخيمات الفلسطينية سيحيلها الى قنابل متفجرة ومشاريع ارهاب ستجد رعايتها لدى كثر من المتعهدين في منطقة يغلي مرجلها على أكثر من نار طائفية ومذهبية وعرقية.
ثمة مفارقة مؤلمة عندما يتزامن النقاش البرلماني اللبناني، حول جنس الحقوق الفلسطينية وحدودها، مع سعي منظمة اسرائيلية غير حكومية تدعى “بتسليم” الى التحري عن آثار الاستيطان اليهودي على الحقوق الانسانية للفلسطينيين وتندد بافلات القوات الاسرائيلية من “العقاب” اثر كل اعتداء على المدنيين العزل.
ان الحفاظ على “الوجه الحضاري للبنان” لا يتم بالتضحية بالفلسطينيين على مذبح الطائفية وتحت شعار الخوف من التوطين.
والتخلص من خطيئة المخيمات والانتهاك المتمادي لحقوق سكانها ربما يوفر للبنانيين نافذة واسعة للخروج من لوثتهم الطائفية والكف عن تحميل “الخارج” المسؤولية في كل ما تجره عليهم من مآس وكوارث.
أكثر من تشريع الحقوق المدنية لسكان المخيمات، المطلوب من اللبنانيين بكل فئاتهم ومشاربهم السياسية والطائفية الاعتذار عن ذلك الارث الطويل والثقيل من المعاملة غير الانسانية لأشقاء لهم اضطرتهم محنة ضعف العرب الى البقاء بعيدين عن وطنهم، لكنهم لم يستسلموا لإرادة عدوهم وظلت جذوة نضالهم مشتعلة وتنتقل من جيل الى جيل.
لقد آن الأوان ليتخلى بعض اللبنانيين عن ذلك المرض الوهمي المسمى توطينا، وللبعض الآخر أن يكف عن الاستثمار الرخيص لتلك المقولة في بازار تحقيق الكسب السياسي ورفع منسوب الشعبية بشعارات بغيضة.
آن الأوان ليدرك كل المعنيين بالشأن الفلسطيني في لبنان أن محاصرة حقوق الفلسطينيين في المخيمات واغتيال احلامهم لا يقلان بشاعة عن حصارهم داخل سجن اسرائيلي كبير في غزة أو غيرها.
Leave a Reply