تأخذنا الحياة بهمومها حتى اننا نكاد ننسى ميعة الشباب وما يرافقها من مشاغبات؛ تلك المشاغبات الملازمة للاءات التي دفعتنا للثورة.
الثورة على انفسنا “ومن حيث لا ندري”، الثورة على الواقع والمجتمع عملا بقاعدة “خالف تعرف”.
فكنا نخالف؛ البعض منا لقناعة ما، والبعض الآخر فقط المشاغبة؛ وكان هناك القلة العاقلون الذين وصفناهم بالمجانين “وما زالوا عاقلين”.
واخذت تلك المشاغبة “الثورة” بالبعض منا الى رفض محيطه، وعالمه، ونفسه ومن يكون؛ وأن ينسى في تلك اللحظة انه برفضه ما يكون كان يرفض ما سيصير؛ ولكنه كان يرفض بأية حال، لأن نشوة النقاش كانت تغمره: ويغفل في خضمها (اي تلك النقاشات) انه يؤسس لفكر آني قد يوصل به الى التهلكة.
كان ينكر كل ما يراه؛ كان ينكر ذاك المجتمع، فيسميه تارة بالمجتمع الطبقي، وتارة اخرى بالمجتمع البرجوازي (ولم يكن يعلم معنى الكلمتين بعد).
وبعد نكرانه للمجتمع الذي حصل بعد نكرانه لذاته ، وصل الى نكران.. الوطن.
كان ينظر الى ذلك الوطن ويراه جسما دخيلا؛ وهو الذي لم يلمس الوطن او المواطنة؛ بل لمس عوضاً عن ذلك.. المناطقية والطائفية وكل أنواع الهويات المنتشرة كالوباء، حين كان الوطن مشرذما، وكان ابن طبقة او “طائفة” حين التئم شمل الوطن.
ودفعه نكران الوطن الى الكثير من المشاغبات المجنونة، والبلهاء أيضا، فذهب الى نكران كل ما في ذلك الوطن من جمال؛ وأخذ به الجنون الى الرحيل “او الهروب”، ولم يدرِ انه يرحل عن كل شيء.
يرحل عن ملعبه (حيث كان يدير نقاشاته)، يرحل عن تلك الصبية التي تولع بها حد الجنون؛ يرحل عن ذاته، وحتى أبيه.
ذاك الاب الذي أنكره مع نكرانه لكل شيء من حوله؛ والذي لقيه بالصدفة حين احتاجه.. وكان هناك.
ذاك الاب الذي أصبح وطناً من حيث لا يدري؛ او ان ذلك مرده لتلك “الثورة” الملازمة للنكران؛ فهو حين ثار على الوطن ثار على أبيه أيضاً.
لم يكن يدري ان ذلك الاب؛ الذي لم يرَ منه الكثير، والذي كان مشغولا بتأمين افضل مستقبل له. لم يكن يدري ان أباه كان يجلس مساء ليرسم خارطة الغد له، وليداعب أولاده؛ وانّى له ان يدري كل هذا في مقتبل العمر “وهو المجنون”.
وتمر السنوات مسرعة بذلك الشاب وتخبو نار “الثورة”، ويتواصل اكثر مع أبيه؛ حيث اصبح هذا التواصل ضرورة بعد ان كان واجبا؛ وحيث انه يعلم اليوم بان هناك شخصا على كامل الاستعداد ليختزل عصارة تجربته لكي يستفيد منها الابن العاق، وان ذلك الأب يسعد لنجاحه بلا مآرب شخصية.
يعلم اليوم انه يستطيع ان يلقي جبهته على تراب وطنه، أو يدفنها في صدر أبيه؛ لا فرق؛ لأنهم فد سامحوه حتى قبل ان يخطئ.
إلى أبي، أنا الذي لم احتفل مرة بعيد الأب، أنا أعتذر!
Leave a Reply